بين المختار والقذافي «الكنتي».. يخوض لغوَ مناحاته وحيداً!

أربعاء, 13/07/2022 - 14:48

بين المختار والقذافي
«الكنتي».. يخوض لغوَ مناحاته وحيداً!
---------------------------
نشرتُ تدوينات في الذكرى الرابعة والأربعين لانقلاب العاشر من يوليو، ختمتُها بمنشور قصير على هيئة تساؤل بشأن التصريح الأخير للشيخ ولد بايه حول ملفات فساد العشرية، ثم أغلقتُ الموضوعَ وانصرفتُ عن الفيسبوك لبعض شؤوني الخاصة.
لكن أحد الأصدقاء هاتفني البارحةَ ليخبرني أن محمد إسحاق الكنتي وضع على حسابه الفيسبوكي مقالا ذكر فيه أني أسأت إليه ولم أُحسن ضيافتَه على صفحتي، ثم تبعتُه إلى صفحته وأغلظت عليه القولَ هناك، وأن إسماعيل ولد يعقوب ولد الشيخ سيديا تدخل هو الآخر بتعليق يشبه النجدة، مما لا يتسق و«شيم الزوايا».. قبل أن يعرِّج على نظام المختار مكيلا له اتهامات الدكتاتورية والزج بالبلاد في حرب ظالمة، قائلا بأن هناك مَن يريد فرضَ تقديسه على الآخرين.. إلخ.
وما أكتبُه هنا ليس رداً على الكنتي ومقاله بحقي، لكنه توضيحٌ لقرائي وقرائه حول ما جرى ولإبراز بعض خلفياته وأبعاده. وفي هذا التوضيح لا أريد استعادةَ ذلك المثل العربي القديم، الذي صار سياراً إلى حد الابتذال والمجّ، «رمتني بدائها وانسلت»، لكني لا أخالُ الكنتي إلا قد تناسى أنه أول مَن بادرني بتعليق وصف فيه تدوينات الصفحة حول العاشر من يوليو بالمناحة الكربلائية على نظام حكم فردي ليس له حسنة واحدة، وهو اتهام صريح من «ضيف» لـ«مُضيفه» الافتراضي بالسفاهة وخفة العقل وفساد الفهم وسوء الذوق.. وهذا يكفي مبرراً للحجر على رأيه (أي المضيف) وإرهابه فكرياً باستخدام اتهامات بدائية تصادفه هنا يومياً على هذا الفضاء الأزرق وكثيراً ما تجاوزها دون أن يعبأ بأصحابها! وقد رددتُ (أنا المضيف الافتراضي) على ذلك التعليق من جانب الكنتي بتعليق من جنسه تقريباً، ذكّرته فيه ببكائية أخرى وبنظام فردي آخر، وختمتُ مهنئاً إياه بالعيد. لكن لم ينته نهار العيد حتى كتب الكنتي منشوراً يكرر فيه تقريباً ما قاله في تعليقه المذكور، وإن بغلالة من الدبلوماسية لا تكاد تخفي ما وراءَها من حنَق على كل ذاكرٍ لنظام المختار ولد داداه بكلمة خير، فعلّقت على منشوره، كما علَّق هو على المنشور السابق، منوهاً على الخصوص بتلك الدبلوماسية وبمكابحها التي لم تستطع فرملة مكنونات اللاشعور، التي يقول عنها فرويد إنها قادرة دائماً على اختراق وتحطيم كل الحواجز المصطنعة!
ولم يكتف الكنتي بذلك المنشور، فطلع علينا بمنشور آخر قال فيه إنه تعرّض لهجوم لاذع على صحفتي، على غير عادة «العرب» (التنصيص من عنده، ومن معانيه في التقاليد الأكاديمية التحفظ والتشكك) في «إكرام الضيف ولو كان مطلوباً في ثأر». وقد ذكَّرتني الجملةُ الأخيرة من الكنتي بواقعة معروفة كان هو ذاتُه شاهداً عليها وجزءاً من النظام الذي نفذها، وهي تسليم ضيف اسمه «عبد الله السنوسي»، أو بالأحرى بيعه مقابل ثمن قدره 195 مليون دولار سلمها المنقوش وأبوشاقور واستلما مقابلها السنوسي مكبلا بالأصفاد. نسي الكنتي في ذلك الوقت واجبَ الضيافة عند «العرب»، وهو الذي ختم إحدى حماسياته في سرت ذات يوم بالبيت الشهير: لا يترك الفتى صديقه/// حتى يموت أو يرى طريقه (وهذه الصيغة مكسورة الوزن).
لكنه لم يتركه فقط، بل باعه بدولارات معدودة! وقبل ذلك كان قد تخلى عن القذافي نفسه وأصبح أحد أوائل الفارين من سرت، وبدلا من الالتحاق بـ«القبعات الصفراء» (أعضاء اللجان الثورية الذين حاولوا إخماد الثورة في بنغازي) دفاعاً عن حكم العقيد الأخ القائد، انطلق صاحبنا يسابق الريح ولم يتوقف إلا في قلب نواكشوط «اعلى حاشيت لبحر لخظر»، بعد ثلاثين عاماً من العيش في ليبيا تحت رحمة أفراد من القذاذفة. وللعلم فإن الشخص هناك يتعين أن يحمل اسم قبيلته، بموجب سياسة الأخ القائد الرامية إلى ترسيخ القبلية في المجتمع الليبي، ولذلك نجد أن بعض الموريتانيين الذين عاشوا في ليبيا قد تشرَّبوا بروح شوفينية قبلية غريبة على مجتمعنا الموريتاني.
ولكل قصة من قصص الفرار والتسليم والتخلي أخواتٌ أخريات ليس فيها الكثير من قيم «تكنتي» وأخلاقه الرفيعة. فماذا فعل «الكنتي» من أجل ولي نعمته وصانعه من العدم؟ وهل انتفض وفاءً للرجل الذي تلقفه وآواه في نواكشوط وجعل منه شيئاً مذكوراً واختاره ناعقاً غير رسمي باسمه ووَدَّه بأن أسند إليه معاركَ «أخيروط» مع كل معارض أو منتقد؟ بعد تفجر الخلاف بين الرئيسين أراد الكنتي أن يتظاهر بشيء من الشجاعة والوفاء (شجيع السيما)، فاحتفظ على بروفايل حسابه في الفيسبوك، ولبضعة أسابيع، بصورة الرئيس السابق، المنتصبة هناك منذ تعيينه في المنصب، لكن ما أن انتزع UPR الصورةَ من على واجهة مقره، حتى راح الكنتي متسللا على رؤوس أصابعه، تحت جنح الظلام وفي غفلة من متابعيه، فأزال هو أيضاً صورةَ الرئيس السابق ونظف مكانَها بالماء والصابون، وصام عن الكلام المباح وغير المباح لأشهر طويلة، مكتفياً بمشاركة بعض الموضوعات عديمة الطعم والرائحة من صفحات غيره، واستمر في بياته الشتوي إلى ما قبل الإعلان عن توقف «التشاور الوطني» ببضعة أسابيع حيث «دخلته الروح» فوثب على المعارضة بمقالات من معهود «أخيروطه».
وخلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة المنقضية لم يبق شيءٌ من «تمرميد» المادي والمعنوي، لم يتعرض له الرئيس السابق، بما في ذلك محاصرته داخل بيته، ثم اعتقاله وتجميد أمواله وأموال أسرته وتشريد بناته.. كل ذلك والكنتي في «وضع الصامت» تماماً، فلا مقالة ولا منشوراً واحداً في الدفاع عن الرجل، ولا حتى مقابلة مع «جون آفريك» يمكن أن يعود لاحقاً ويكذِّب عنها! لقد صمتَ صمتاً تاماً بعد كل الصخب الذي أحدثَه طوالَ سنوات العشرية، وبعد معارك من «أخيروط» لا تهدأ ولا تعرف التوقفَ دفاعاً عن القائد الضرورة -الهبة الإلهية. لكن بعد مغادرة عزيز السلطةَ اختلطت حسابات الكنتي، إذ كان يعتقد أن مَن ربَّاه وجيلَه سيكون الحاكمَ الفعلي للبلاد وغيرُه مجرد «رجل ظل»، بيد أنه بعد أن اتضحت الأمور أخيراً على أرض الواقع لم يعد «عزيز» عزيزاً إلى قلب الكنتي!
والكنتي لا يخطئ في حساباته فقط، لكنه يصاب أيضاً بداء النسيان أحياناً، وهذا عَرَض مرَضي مهم لصانعي الدعاية وكتاب المقالات تحت الطلب. ومن ذلك كونه نسي أنه أتى في السابق عدة مرات إلى هذه الصفحة المتواضعة، متحرِّشاً ومستفزاً ومظهِراً الروح العدائيةَ، وفي كل مرة تمت معاملتُه بروح الصبر والتحمل، ليس تجاهلا ولكن تجنباً للاصطدام بشخص يعشق الخصومات ويصطاد المشاحنات، وتحاشياً للدخول في جدل من الفذلكات الكلامية لا طائل من ورائه ولا يتوفر الوقت لخوضه دائماً. بل إن هذا «الضيف الثقيل» أخذ معه ذات مرة شيئاً من محتويات بيت مضيفه، وأعاد نشره في صفحته الخاصة على سبيل التشهير والتشنيع، مستهلا منشوره ذاك بالقول: «لم يفتأ هذا السيد الذي يقيم في قطر..»، معتقداً أنه ظَفَرَ بصيد ثمين يحتاجه لنيل رضى مشغّله آنذاك، لكن بعضَ زبائن صفحته نبَّهوه إلى خطأ المعلومة الاستهلالية، أي أن «أول القصيدة كفر»! ومنذ ذلك الوقت عرفتُ أن الصِّداميَّة والتسرع والتعجرف ليست كل آفات الكنتي، بل إن مدرِّس الفلسفة قد يخونه عقلُه أحياناً في فهم محتوى منشور فيسبوكي بسيط ضمن سياقه الحقيقي، ربما لميل متأصل نحو أخذ الآخرين دائماً بالريبة وسوء الظن!
وقال الكنتي إن تشبيهه لمنشورات هذه الصفحة بالمناحة «تشبيهٌ بليغ في مبناه ومعناه، غير أن البلاغة لا تروق لكل الأذواق». لكن متى كان من الذوق أن يصف المرءُ نفسَه بالبلاغة أو كلامَه بالبليغ؟ البلاغةُ فن عظيم وراق للغاية، وهي معجزة كتاب الله التي أذعن لها العرب، وهم أمة بلاغة وشعر، لكن البلاغة في عالم البروباغندا الشعبوية التي دأبت عليها أنظمة الزعيم القائد الأبدي المطلق (المتألِّه)، تتحول إلى سلاح تضليلي لتشويه الحقائق وتسويق الأوهام، وكثيراً ما تصبح مادةً يعتاش عليها كَتَبَةُ المقالات السجالية، خاصة بالنسبة لمن تمرَّن عليها مذ كان طالباً في الجامعة، وكان يمرر مقالات من ذلك اللون إلى آخرين مِن تحت الطاولة في مجتمع محكوم بعقدة الخوف والتملق لقائده. لا أعتقد أن هناك شيئاً مؤذياً للذوق أكثر من مقالات المماحكة السجالية (مدحاً وهجاءً، تحاملا وتملقاً)، لكنها كانت زادَ الرحلة الطويلة من سبْها (مدينة القذاذفة) إلى سرْت (مدينتهم الأخرى)، ثم نواكشوط «العزيزية»، فكان ما كان من تلك المقالات التي لم توفِّر أحداً، صالحاً أم طالحاً.. بل طالت الكثيرين ونالت من أبرياء وهاوشت مَن لا علاقة لهم بالسياسة مثل الفقيه الوقور غير المتسيس محمد الأمين ولد مزيد، وتوقفت في أحدث محطاتها مع بيرام ولد الداه ثم محمد ولد مولود.. لكنهم جميعاً تجاهلوه ولم يلتفتوا لحطيئياته!
ومن المضحكات أن صفحةً غارقةً إلى أذنيها في الأدلجة والشوفينية الأيديولوجية، تعيِّر ولد مولود بالتأدلج! بل نجد في منشورها الأخير، «هل غادر الإخوان من متردم»، فقرةً تدعو إلى التعقل والترفع والموضوعية والتسامي على الشخصنة في المناقشات السياسية، وفقرةً أخرى تستحسن البصاقَ على اليسار الذي التحق بـ«حزب الشعب الموريتاني»، مع العلم أن ولد مولود من خيرة اليسار الصامد الذي لم يلتحق لا بحزب الشعب ولا بالهياكل ولا بالحزب الجمهوري ولا بالاتحاد من أجل الجمهورية! ومنه أيضاً المرحوم الزعيم المصطفى ولد بدر الدين الذي رفض بقوة محاولات القذافي اللعبَ ببلادنا من خلال (6/6)، واصفاً إياها بالسفاهة والإجرام، كما قال إنه عارض جميعَ أنظمة البلاد لكنه لم يحتقر نظاماً كما احتقر نظام العشرية الذي نعلم مَن كان المنافحَ الأولَ عنه.
وليس هذا كل تناقضات الكنتي، إذ نجد في مقاله المذكور أعلاه فقرةً تطالب بعدم التعريض بالقذافي (وتضع إلى جانبه هواري بومدين)، لكن لا بأس من كتابة المناشير والتعليقات الطويلة في التعريض بالمختار ولد داداه، دون مراعاة لا لإسلامه هو أيضاً ولا لحرمة عرضه كرجل ميت («لا يستطيع الدفاع عن نفسه»)، أما رابطة الوطن وجميل الرجل كمؤسس لدولتنا القائمة، حيث ينعم الكنتي الآن بالوظيفة وبكل امتيازاتها، فلا مجال لتقدير شيء من ذلك أو شكْره!
لقد عرّض الكنتي كثيراً بالمختار ولد داداه إلى درجة الإسفاف والإساءة والتصيد الفج، لكن على نحو متفاوت وفقاً لمزاج المرحلة السياسية وتوجهات شاغل المنصب الرئاسي. وقد ظل موضوعَا الأحادية الحزبية وحرب الصحراء ثابتين من ثوابت أجندة ذلك التعريض، لاسيما خلال الفترة التي كان يجري فيها التحضير لتغيير دستوري يسمح بمأمورية رئاسية ثالثة، حيث دافع الكنتي في مقاله «من أجل دستور وطني منفتح»، وبكل ما يملك من بلاغة البروباغندا، عن ضرورة تغيير الوثيقة القانونية الأعلى في البلاد بغيةَ إعادة تفصيلها على مقاس رجل بعينه، وذلك في دولة أصبحت مكتملةَ السيادة وثابتة الأركان وقد دخلت العقدَ السابعَ من عمرها وأكملت العقدَ الثالث من تجربتها «الديمقراطية».. ممهداً لتعللاته بتغييرٍ دستوريٍ وقعَ في السنة الثانية من عمر الدولة الوليدة، لحمايتها آنذاك من خطر فوضى النظام البرلماني في ظل أوضاع داخلية هشة وبدائية ومطالبات إقليمية قوية لا يتوفر من وسائل الحماية ضدها إلا ما كان المستعمرُ السابق يقدّمه، وهو مترددٌ أصلا في تقديمه وغير مقتنع تماماً بجدوائية الكيان الجديد، حيث حاول ديغول إقناع المختار في صيف عام 1960 بالتخلي عن فكرة الاستقلال والانضمام إلى «مشروع رابطة الصحراء»، ثم حاول إقناعه في شتاء العام التالي بقبول نوع من الاتحاد الكونفدرالي مع المغرب. هذا مع العلم أن أصحاب المطالبات الإقليمية في بلادنا هم أيضاً حلفاءٌ مهمون لفرنسا. ومما يدركه العارفون بهذا الخصوص أن محاولات إثارة البلبلة وشق الصف الوطني الناشئ في أعوام 1961 و1963 و1966، كانت بمثابة الخطة (أ) للإجهاز على مشروع الدولة الوليد من داخله، تماماً كما كان الهدف من محاولات شل «ميفرما» هو تقويض جهود استقلالنا المالي الذي قال المختار إنه بدون تحقُّقِه لن يكون هناك معنىً لاستقلالنا السياسي، أي بغية إعادة وضعنا تحت رحمة معونات وزارة المالية الفرنسية لبند الرواتب في ميزانيتنا الوطنية بعد أن قرر الرئيس في عام 1962 الاستغناءَ عنه نهائياً مهما كلفنا ذلك من تقشف. وقد تحررنا فعلا من الارتهان لذلك الدعم المالي بفضل حصتنا من عائدات «ميفرما»، وهي كَنسبة مئوية تفوق حصتنا الحاليةَ من عائدات «تازيازت كينروس». لكن لم يشأ الكنتي أن يفوِّت فرصةَ مطالبته بتغيير الدستور من أجل المأمورية الثالثة دون أن يأتي بذلك التمهيد الطويل معرّضاً بالمختار، ومصوراً إياه كحاكم بأمر نفسه.. ومعه أيضاً العلامة الشيخ عبد الله بن بيه الذي لا يكنُّ له صاحب مقال «رجل الظل» الشيءَ الكثير من الود، وإن كان لا يجرؤ على تخصيصه بمنشور أو مقال، لكنه ينال منه في تعليقات هنا وهناك على صفحات مختلفة!
كان المختار دكتاتوراً، في نظر الكنتي، بدليل أنه أبعد أشخاصاً مثل سيدي المختار وسليمان ومحمد ولد الشيخ وأحمد بابا مسكه! لكن عدا عن أن الوظائف التي كان يشغلها هؤلاء لم تكن وظائفَ أبديةً (اللهم إلا بمنطق صاحبنا السابق الذي أطاح برئيس منتخب لمجرد أنه أقاله من منصبه!)، فإنهم كانوا من أقرب الناس إلى الرئيس في حينه، وكان يقدّرهم تقديراً خاصاً، وفي ذلك برهان آخر على صرامته وموضوعيته التامة فيما يتصل بالصالح العام.
وينسى الكنتي وهو ينظِّر للديمقراطية الموريتانية، وما يجب أن تكون عليه، أن المرحوم معمر الذي تعهد هو ذات يوم بالدفاع عنه حتى النفَس الأخير، كان يقيل كبارَ المسؤولين في جماهيريته العظمى بجرة قلم، بل كان يرسلهم أحياناً إلى المشانق مباشرةً.. وأن «لجنة طمس النجوم» كانت تحظر ذِكرَ أسماء الوزراء والمديرين والسفراء واللاعبين والفنانين.. والاسم الأوحد الذي يُسمح لليبيين بمعرفته وترديده دائماً هو اسم القائد فقط (وبعض أبنائه)! فالوزراء بلا أسماء ولاعبو كرة القدم مجرد أرقام! وينسى الكنتي أيضاً أن المعارضين في الجماهيرية كانوا يسمون «الكلاب الضالة»، وأن مجازر ومذابح ومسالخ عظيمة وقعت طوال أربعين عاماً بحق الليبيين في ساحات المدن وشوارعها وداخل الجامعات على أيدي مليشيات القائد، الذي كان يختار وقتَ الإفطار في رمضان كي يسلِّي مواطنيه بإذاعة الإعدامات على شاشة التلفزيون. كما ينسى الكنتي أنه في هذه الجماهيرية العظيمة لم يكن هناك دستور ولا رئيس منتخب ولا برلمان يمثل الشعب.. بل كانت مشيئة القذافي ورغباته الخاصة هي القانون وهي الدستور («أنا الدولة»).
لذلك يدعو الكنتي في مقاله إلى عدم التعريض بالقذافي، والتوقف أيضاً عن أي تعريض بالمرحوم هواري بومدين الذي فرض في الجزائر إحدى أكثر صيغ نظام الحزب الواحد شموليةً، والذي فعل ما فعل في سجونه بالزعيم أحمد بن بله. لكن لا بأس، فالقذافي وهواري (وكان هذا الأخير يحتقر الأولَ احتقاراً لا حدود له) كوّنَا وسلّحَا جبهةَ البوليساريو وأرسلاها لتغِير على بلادنا، لأن المختار ولد داداه كان أحادياً ودكتاتورياً! ولذلك السبب أيضاً فالعاشر من يوليو كان شيئاً جيداً للغاية، لاسيما أنه تنازل للبوليساريو عن جزء عزيز وجميل من أرض الوطن يوم ذاك، وقد حدث ذلك في طرابلس الغرب بإغراءات البترودولار الليبي!
كلَّما ذُكِرت البوليساريو مع العاشر من يوليو تذكرتُ كتاباً طريفاً بعنوان «الأسراب الجانحة» لمؤلفه محمد سعيد الكشاط، رجل القذافي وسفيره المتجول في منطقة الصحراء والساحل، والذي يصور فيه قادةَ البوليساريو كثوريين طائشين لا يقيمون أي وزن لموريتانيا والموريتانيين، كما يصف فيه جماعةَ العاشر من يوليو كعساكر متخبطين لا يعرفون ما يريدون ولا يرون أبعد من أنوفهم.
لكن لا بأس أيضاً، طالما أن الأخ القائد قد وصلَ بانقلاب عسكري هو أيضاً (وقد سماه من عنده ثورةً)، وكان يدعم كل الانقلابات العسكرية والحروب الأهلية في أفريقيا وغيرها، فإن العاشر من يوليو يبقى أفضل شيء.. وطالما أنه كان يدعم ويسلح البوليساريو ضد موريتانيا إمعاناً في تعميق التجزئة العربية، وهو الذي كان يعلن إيمانَه باستخدام السلاح من أجل فرض الوحدة العربية.. فلا بأس أيضاً بجبهة البولساريو لأنها عادت المختار ولد داداه، ولذا فإن «حرب التوحيد» التي خاضتها موريتانيا الناشئة لتوها، كانت خطأ شنيعاً وجريمةً نكراء يستحق بسببها المختار ولد داداه التعريض والتخوين! ألم يكن رئيساً مستبداً جاء على ظهر دبابة (انتخب في عام 1957 ثم توافقت عليه عدة مؤتمرات موسعة تمثل المجتمع الموريتاني)، وفرض على الموريتانيين بالنار والحديد نظامَ حكم فردي شمولي ستاليني وحَرَمهم من ديمقراطية متطورة وراسخة كانت قائمة؟!
لقد ابتُليتْ الديمقراطيةُ الموريتانية، أو بالأحرى «ديمقراطية لابول»، بنقائص وعاهات خَلقية كثيرة، ومن أشد وأشنع ما ابتليت به أن معظم منظِّريها الرسميين لم يكونوا ديمقراطيين بالمرة، بل كانت أفئدتهم دائماً تتجه نحو نماذج حكم شمولية. لكن لم يسبق أبداً أن كان فيهم مَن يعتقد بأن «التمثيل تدجيل» (أي التمثيل البرلماني)، وأن «الحزبَ قبيلة العصر»، وأن «مَن تحزَّب خان»، وأن «المرأة تحيض والرجل لا يحيض والدجاجة تبيض والدينار لا يبيض».. إلخ هذه المقولات التي تشكل نسيجاً فكرياً في العقيدة السياسية للكنتي!
أحمدُ الله تعالى على آلائه الكثيرة ونعمه الجليلة، ومنها أنه لم يجعل رزقي في السجالات والمماحكات الكلامية ومقالات التقعر والتفذلك وكتابات المديح والهجاء.. لذا لم أجدني يوماً في بحثٍ عن متردم من المثالب ترَكه مترزّق هنا أو غادره شوفينيٌ هناك.. لكني أتفهّم مِن البعض ما لا أقبله لنفسي، فبعد أن كسدت سوقُ الكلام وأصبحت مؤشرات التقارب بين النظام وبعض معارضيه في تزايد ملحوظ، وسمح لهم بإعادة فتح مؤسساتهم، واستُضيفوا على المنابر الرسمية.. ولم تأتِ معزوفات الهجاء الأخيرة ضد بيرام ومن بعده ولد مولود وحزب «قوى التقدم» بالعائد المطلوب والربح المنشود.. لا بأس من توجيه فوهات المدفعية مجدداً نحو المرحوم المختار ولد داداه ونظامه، ونحو الفقير إلى ربه محمد المنى، والكاتب الرصين والمحلل السياسي العميق إسماعيل ولد يعقوب ولد الشيخ سيديا.. دون أن تسْلم «شيم الزوايا» من شهوة متأصلة إلى التعريض والسخرية والاستعلاء! وقد أحسن إسماعيل برده الموجز والبليغ وغير المكترث كثيراً بـ«أخيروط» الكنتي، ولا بالعبارة المشينة التي استخدمها بحقه، ولم يكن من معهود مجتمع البيظان أن يستخدمَها رجلٌ في عمر الكنتي!
وإلى ذلك فلم يفت على أفهام القرّاء حرصَ الكنتي على تجنّب الدكتور محمد ولد الراظي الذي كتب هو كذلك، تعليقاً على نفس المنشور، تعقيباً قوياً متماسكاً وعميقاً، قال فيه عن العاشر من يوليو ما لم يقل محمد المنى عشرَه. تماماً كما تهرَّب (أي الكنتي) من الرد على الرائد إبراهيم ولد بكار ولد صنيبة، صاحب الصوتيات التي هي أساس المنشورات كلها، والذي قال عن العاشر من يوليو ما يتحاشى محمد المنى قولَ معشار معشاره حفاظاً على أعصاب الكنتي من التلف. وبهذا الهروب الذي لا أدري أهو الثاني أم الثالث أم الرابع (باحتساب واقعة مقال «رجل الظل»).. وعبر توظيف الأسماء والإشارات وتقنيات البلاغة الدعائية، يعتقد الكنتي أنه يخلق الصورةَ التي يريدها في أذهان القراء من صغار الشباب.. باعتباره شهيدَ الدفاع عن الديمقراطية والتعددية الحزبية وحرية التعبير في النظام الأحادي للمختار ولد داداه، أي ذلك المعارض بأثر رجعي، أو باختصار: صورةَ «الكنتي» مظلوماً وجديراً باجترار إسفاف المناحات الكربلائية حقاً، والتي لن يجد هنا -بعد هذا التوضيح- مَن يخوض معه في وحل لغوها!

من صفحة محمد المنى بالفيس بوك 

تصفح أيضا...