تأملات، من شارع العِتق •• إلى شارع الرزق ...

جمعة, 26/03/2021 - 07:55

تأملات،
من شارع العِتق •• إلى شارع الرزق،
‎خرجتُ يوما في زيارة لأحد الأصدقاء في مدينة "بطوار". ووجدتُ نفسي في زحمة مرور خانقة، ما  أعطاني فرصةَ التّأمُل عن قرب في ملامح ذلك الجزء من العاصمة نواكشوط. و بصراحة، اندَهَشتُ لما أصاب المنطقة الممتدّة من جنوب سوق العاصمة (المرصه لكبيره) إلى شارع "اكلنيك" من تقاعُس في الهِمّة والطّمُوح وتَراجُع في المقام مقارنةً مع سبعينيات القرن الماضي. و اندهشت أكثر عندما حدثوني عن أسمها الجديد :  "شارع الرزق"• نظرت إليها ثانية و ثالثة، ثم أرجعت البصر كرّتين.. و تأملت المشهد.. فإذا بالشارع الذي عهدته شارع فِكر و عِتق تحوّل إلى شارع تجارة و رِزق! 
‎اختفتْ الساحة الواقعة بين المفتشية (مفتشية الشغل) ومدينة (ر)، وهي التي كانت دوْما تعُجُّ بالنّشاط السّياسي والاجتماعي والمَعْرِفي؛ ساحة نقاش وحِوار وصراع بين مختلف التّيارات والنّظريّات والأفكار. لا تخْلو أبداً من جماعات شبابيّة تبحثُ في الأمور الوطنية والإقليميّة والدولية. ساحة تسِع الجَميع وقِبْلة للجميع. يلتقِي فيها اليَسَاري والبعثي والنّاصري والحيّادي والشّاعِر والأديب وبعض المارّة والفضوليّين. ويَمُرّ بها أحيانًا بعض القادة الكبار: سميدع، بدن، إشَدُّو، با ببكر موسى، ممّد ولد أحمد، التراد ولد سيدي، أحمده ولد مد الله، الكوري ولد احميتّي، لادجي اتراوري، إلخ،، ولا تخطئ العين كتبا مبَعثَرة ومجلاّت وجرائد: هنا "الكُتَيّب الأحمر" ومختارات من أقوال ماوْ تسي تونغ، وهناكـ "في سبيل البعث" و آخر مقالات ميشل عفلق، وجريدة الأهرام، والحريّة، ومجلّة العَرَبي، إلخ... وكلّ الشّعارات لها فُسحَة بدءًا بِشعار "يا عُمّال العالم اتّحدوا" وانتهاءًا بِ"الحرية ولاشتراكيّة والوحدة" مُرُوراً ب"أمّة عربيّة واحدة ذات رسالة خالدة" ! 
‎وفي وسط السّاحة، تقف الشجرة الرمز .. شجرة "تكوس" علمًا! عندها تلتقي جماعات "تكّوسُ" بيْن من يتَلهّى بظامَتْ ومرْياصْ (بَلوتْ والبُوكْ) وبيْن من يُتابِعُ ما يستجِدّ من فُرَص عمل ويُراقِبُ عن كثب لوحة الإعلانات المثَبّتة على جدران الإدارة. ومن حين لآخر، تُسمَع مشادّات كلاميّة بين العاطلين و وكلاء مفتشيّة الشغل. وسبحان الله العظيم، اختفى هذا كلّه وزال...اختفتْ "الساحة" و أقلعت "الشجرة". وتحوّلت المنطقة برمّتها من ساحة شبابيّة وميدان "تحرير" ينبض بالثقافة والفِكر إلى محلاّت تجاريّة لا قلبَ لها ولا فِكر. وتحوّلت من ساحة لطلب الحرية والعِتق إلى شارعٍ لطلب الرِّزْق !؟ حلّت الأكياس و"ازگايب" والقَوارير والصّناديق محلّ الكتُب والجرائد والمجلات ... وحلّ طلاّب الرّبح و"الطّرنيشْ" محلّ طلاب الحرية والعيشْ (تكّوسُ)... وحلّ صخَبُ السّوق وضجيجه محلّ هُتاف المناضلين وسكينَة القراءة وهمْس النقاش... وحلّت عمارةٌ من طابقيْن يقالُ إنّها مسجدٌ الفَوْگْ الفَوْگْ ودَكاكين التَّحْت التّحْتْ محلّ مفتشيّة الشّغل ...
‎وكلّ زَمان بما فيه ينضحُ !؟
محمد فال ولد بلال