مُرَافَعَةٌ عَن اللَّحَّانِين..
مَن يَسْلَم من اللحن؟!..
نقل الإمام شمس الدين الذهبي، رحمه الله، في ترجمة شيخ القراء والعربية الكسائي، أشياء من لحنه، منها أن الكسائي قال: صليت بالرشيد فأخطأت في آية، ما أخطأ فيها صبي، قلت: "لعلهم يرجعين"، فوالله ما اجترأ الرشيد أن يقول: أخطأت، لكن قال: أي لغة هذه؟ قلت يا أمير المؤمنين قد يعثر الجواد، ومنها: عن سلمة عن الفراء، قال: سمعت الكسائي يقول: ربما سبقني لساني باللحن..
ومنها عن خلف بن هشام: أن الكسائي قرأ على المنبر آية سورة الكهف: "أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا" بنصب الراء في "أكثر"، فسألوه عن العلة، فثرتُ في وجوههم، فقال لي: يا خلف: من يسلم من اللحن؟!.. (سير أعلام النبلاء ـ ج 7 ـ ص 554 ـ 555 ـ ط دار الحديث القاهرة 2006)..
إمامُ النحو سيبويه رحمه الله، لم يكن يتكلم لغة عربية فصحى سليمة من الأخطاء، قال شمس الدين الذهبي في ترجمته له في سير أعلام النبلاء: "وقيل كان فيه مع فرط ذكائه حُبْسـةٌ في عبارته، وانطلاق في قلمه.."..(ج 7 ـ ص 346 ـ ط دار الحديث)..
وفي ترجمته في وفيات الأعيان: "..وقال معاوية بن بكر العليمي، وقد ذكر عنده سيبويه: رأيته وكان حديث السن، وكنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل بن أحمد، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو، وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فقلمه أبلغ من لسانه.."..(ج 3 ـ ص 465 ـ ط دار صادر )..
رأيتُ الإمام الحافظ الخطيب البغدادي توسع في أبواب من كتابه: "الكفاية في علم الرواية" في الكلام على لحن المحدثين، ومن ذلك ما ساقه بسنده عن أبي عبد الرحمن النَّسائيّ أنَّه قال: "لا يعاب اللَّحن على المحدّثين فقد كان اسماعيل بن أبي خالد يلحن و سفيان و مالك بن أنس و غيرهم من المحدِّثين.."..(ص 187 ـ نشر المكتبة العلمية المدينة المنورة)..
رأيت الجاحظ في البيان والتبيين عقد بابا سماه: "باب في لحن البلغاء"، وأتذكر أن السيوطي في تاريخ الخلفاء، ساق حكاية ظريفة، بين المأمون والنضر بن شُميل، نسب فيها النضرُ هُشيما إلى اللحن بقوله: كان لحانا، وهشيم من أئمة الحديث الموثوقين، فلم يضره لحنه..
هذا، وأنا ممن يستقبح سماع اللحن، ورؤية الخطأ من الغير، مع كثرة وقوع ذلك مني، وكنت إلى وقت من المصححين "الفضوليين" أو الفضاليين إن صحت، ويعلم أصدقاء الدراسة، والشبابِ مشاغباتي في هذا المجال، لكني تبينت أن ذلك كان مني تعصبا لأوائل المبادئ التي تعلمت..
ثم إن بعض الأخطاء المنتشرة في شبكات التواصل عفوي، أو تسبق إليه لوحات مفاتيح الأجهزة الذكية، وتقترحه قواميسها، والوقوع فيه أصلا لا ينم عن جهل، وتصحيحه لا يدل على معرفة، والفكرة إذا وصلت تحقق هدف أساسي من أهداف اللغة، ولو أقام فصحاء العربية ـ قديما ـ محاكم لأهل اللحن، لدخل السجن أئمة اللغة قبل عوام الناس..
صبحكم الله بالخير..
من صفحة وكيل الجمهورية بنواكشوط الغربية أحمد المصطفى بالفيس بوك