أوضحت في ما سلف أن مطالبة المغرب ببلادنا قد حالت غداة استقلالنا دون إقامة أي علاقات مع دول المشرق العربي ما عدا السعودية ، فقد أجرى بعض المسؤولين السامين الموريتانيين أثناء مواسم الحج اتصالات مع السلطات السعودية منذ فترة القانون الإطاري والاستقلال الداخلي ، واستمرت تلك الصلات بعد الاستقلال الصيغة نفسها حتى اعتراف الرياض الرسمي بالجمهورية الإسلامية الموريتانية .
وكان أول لقاء جمعني بالملك فيصل في القاهرة سنة 1964م بمناسبة انعقاد القمة الثانية لدول عدم الانحياز ، وكانت علاقاتنا مع المغرب من ضمن ما أثرنا من قضايا في ذلك اللقاء إذ كانت تشغل باله حقا ، وقد وعدني بأنه سيفعل كل ما في وسعه من أجل أن يحمل المغرب عل الاعتراف باستقلالنا ويقيم معنا علاقات طبيعية ، وأنجز حر ما وعد .
فقد سحب ترشح بلاده لتنظيم أول مؤتمر قمة إسلامي مفسحا المجال أمام المغرب لاستضافته مهيئا الفرصة للحسن الثاني للاعتراف بالجمهورية الإسلامية الموريتانية وإقامة علاقات طبيعية معها .
وفي سبتمر 1969م لقيت من جديد الملك فيصل بالرباط وكان مسرورا جدا بانفراج الأزمة المغربية الموريتانية ، وقد دعاني إلى القيام بزيارة رسمية لبلاده عندما يسمح برنامج عملي بذلك ، وتمت تلك الزيارة في أكتوبر 1971م وسررت بها كثيرا على المستويين الشخصي والعمومي .
فعلى المستوى الشخصي حققت حلمي كمسلم في زيارة الديار المقدسة حيث أديت مناسك العمرة وزرت الروضة الشريفة وطالما انتظرت هذه اللحظات بفارغ الصبر وحلمت بها منذ طفولتي ومراهقي ، إنها لحظات مفعمة بالمشاعر الدينية الجياشة بالنسبة لمن نشا في وسط ديني خالص ، فقد كانت تساورني منذ صباي رغبة دائمة في زيارة الأماكن المقدسة وأداء الحج والعمرة ، غير أن المشيئة الإلهية لم تتح لي فرصة تحقيق حلمي في الفترة التي كنت فيها فردا من عامة المسلمين لا تلزم أفعاله وأقواله غيره . ومع تراكم مسؤولياتي في الدولة أصبحت حريتي الفردية مقيدة ، فقد كان علي أن أضع في الحسبان اعتبارات أخرى بوصفي رئيس حكومة أولا ثم رئيس دولة ثانيا أتصرف باسم شعب بكامله ، إنه شعب أجسد قيمه الأخلاقية من شرف وكرامة واعتزاز بالوطن ، فلو سافرت في تلك الظروف إل الديار المقدسة قبل الاعتراف الديبلوماسي ببلادي فإن السلطات السعودية لن تمنعني بالطبع من أداء مناسكي كمسلم لكن لن يكون بوسعها من الناحية الديبلوماسية أن تستقبلني استقبال رؤساء الدول التي تعترف بها ، لذلك لم أكن لأسمح لنفسي ولا يسعني أن أسمح لها بأن أستقبل استقبال الأشخاص العاديين لأن ذلك سيعتبر إهانة ديبلوماسية لن يتركها الحجاج المغاربة تمر بسلام ، فما سيقال له أهميته أحيانا بالنسبة للدول كما هو الشأن بالنسبة للأفراد !
وأمام هذا الوضع قررت بوعي تام أن أنتظر حتى أتنحى عن السلطة وأصبح مواطنا عاديا فأؤدي فريضة الحج على الفور ، أو أن تعترف الحكومة السعودية ببلدي وأنا في السلطة فأقوم بأداء مناسكي ، وذلك ما تحقق بحمد الله في ظروف مثلى للكرامة الوطنية في الفترة ما بين 17 و21 أكتوبر 1971م حيث أديت مناسك العمرة وزيارة المسجد النبوي ، كما أديت فريضة الحج سنة 1976م في ظروف مماثلة وأرجو من الله أن يعفو عن ما اقترفت من تأخير في تأدية تلك المناسك .
وحسب شهادات بعض مواطنينا القاطنين بالديار المقدسة منذ وقت طويل فقد استقبلني الملك فيصل خلال تلك الزيارة استقبالا أخويا حارا ومتميزا مقارنة باستقبالاته لرؤساء آخرين من دول عربية وإسلامية ، وفي هذا السياق أكد سفيرنا إنها المرة الأولى حسب علمه ، التي تزين فيها فجاج مكة بأعلام بلد أجنبي ، فهل كان الأمر على ما وصف ؟ ومهما يكن فقد غمرتني السعادة وأنا أرى علم بلادي يرفرف في سماء مكة المكرمة .
وخلال هذه الزيارة ناقشت مطولا مع مضيفي ــ غير المهذار مثلي ــ كل قضايا الساعة حسب التعبير المتداول ، وقد أعجبت كثيرا ببساطته الطبيعية وبحماسه الديني الأصيل وبرؤيته للإسلام والدور الذي يتعين على ديننا الحنيف أن يلعبه لا في العالم الإسلامي فحسب بل في العالم كله خصوصا أن بإمكانه أن يسهم في إدخال البعد الأخلاقي في العلاقات الدولية ، وقد وجدت مضيفي على اطلاع واسع بكل تعقيدات الحياة الدولية ، ورغم عدائه المتأصل للشيوعية فقد متفتح الذهن إلى درجة فاجأتني ، وأثارت إعجابي كثيرا إذ لم أكن أتوقع أن أجده على النحو بل كنت أظنه شديد المحافظة إن لم أقل متعصبا ولكنه كان بعيدا من ذلك ، فحتى الشيوعية التي يمقتها ، كان له اطلاع لا بأس به على حقيقتها فهو يعرف بعض أعمال ماركس ولينين !
وكان عدوا الإسلام اللدودان اللذان يجب القضاء عليهما في نظره ، هما الشيوعية والصهيونية الحليفان رغم تعارضهما الظاهري ــ حسب تعبيره ــ .
وكان هناك اتفاق كبير في جهات نظرنا حول كثير من القضايا المتناولة ، ومع ذلك شكلت علاقاتنا بالصين الشعبية نقطة سوداء تثير قلقه بالنسبة لموريتانيا ، وعبر لي عن ذلك بصراحة وأخوة ، فهو يرى أن أي بلد مسلم يقيم علاقات امتياز مع بلد شيوعي يخشى عليه من خطر جسيم ألا وهو العدوى الشيوعية ، ويعتبر أن الشيوعية سم ناقع يسرب من ألف طريق وطريق بصورة ملتوية وغير متوقعة ، ويتغلغل بمكر ليفسد ما يحتك به من أبدان وبلدان ، وقد حاولت أن أطمئنه شارحا سياستنا الخارجية المتمثلة في أننا في الوقت الذي نحاول أن ننوع تعاوننا الدولي إلى أقصى حد ، نبقى دوما يقظين بل حذرين ، ونجتهد في اختيار مجال تعاوننا بعيدا عن أي خلط أيديولوجي ، إن ذلكم المعنى الذي نعطيه لعدم انحيازنا الذي يسمح لنا بالتعاون مع الدول الغربية ودول المعسكر الاشتراكي في آن واحد ، ورغم ضعفنا وحاجتنا إلى مساعدة الآخرين فقد رفضنا على الدوام أي تدخل في شؤوننا الداخلية ، سواء تعلق الأمر بفرنسا أو أي بلد آخر غربيا كان أو شرقيا ، وفيما يتعلق بالصين فإن علاقاتنا الثنائية معها لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات ، وعلى الرغم ن قصر تجربتنا فإن سلوك الصين لا يضاهيه أي سلوك آخر في كلا المعسكرين ! ولم تقم الصين أبدا حتى الآن بأي نوع من الدعاية ولم تحاول أي نوع من التبشير ببلادنا ، ويتحلى دبلوماسيوها وخبراؤها بسلوك نموذجي رصين ، ويعتبر قادتها من أمثال ماوتسي تونغ وشوان لاي مثالا للتواضع عز أن نجد له نظيرا في العالم ، وهم يقدمون لننا أهم عون نتلقاه من الخارج ، ويخيل إلينا من أقوالهم وأفعالهم أثناء مناقشتنا معهم ، مهما كان مستواها أنهم مدينون لنا بالكثير وليس العكس ! وبما أنني لا أومن بأن العلاقات بين الدول يحكمها حب الإحسان فإنني أعتقد أن العون الصيني لا يخلو من غاية ، ومهما كانت نيات القادة الصينيين فإن عونهم حتى الآن غير مشروط فهو غير محرج خلافا لما عليه الحال بالنسبة للمساعدات الغربية والاشتراكية ، فطريقة الصينيين في البذل نموذج منفرد في مجال التعاون الدولي حسب تجربتنا معهم على الأقل .."
وفي نهاية عرضي المطول حتى لا أقول عريضة دفاعي قال لي الملك فيصل وعدم الاقتناع باد عليه : إنني واثق بإيمانك بالله وبوطنيتك ولكن عليك بتوخي الحذر فالشيوعيون والصهاينة شياطين ، وأرجو من الله أن يعينك على جني الفائدة لبلدك من التعاون مع الصينيين دون أن يلحق ذلك الضرر بالجمهورية الإسلامية الموريتانية وبالأمة الإسلامية . وكان الملك فيصل يردد على مسامعي هذا الكلام كل مرة نلتقي فيها خاصة أثناء زيارته الرسمية لبلادنا ما بين 23 و26 نوفمبر 1972م وفي القمة العربية المنعدة بالجزائر في 1973م التي قبلت فيها عضوية موريتانيا في الجامعة العربية وخلال زيارتي الرسمية الثانية للملكة العربية السعودية في إبريل 1974 والتي جاء حينها وكيل وزارة الأشغال العامة السعودية إلى انواكشوط للإشراف على انطلاقة بناء الجامعة ، وبعد هذه الزيارة لم أر الملك فيصل مع الأسف فقد انتقل إل الرفيق الأعلى تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته .
ومنذ زيارتي الأولى للملكة العربية السعودية في أكتوبر 1971م ألححت كثيرا على مضيفي بشأن أهمية العلاقات الإفريقية العربة وعلى الدور القيادي الذي يمكن أن تلعبه السعودية في المجالين الثقافي والديني من جهة ، والمجال المالي من جهة أخرى ، فقد مقتنعا بأهمية إفريقيا السوداء على وجه العموم وبأهميتها بوجه خاص فيما يتعلق بالقضيتين اللتين تشغلان باله إلى أقصى حد وهما الإسلام وتفهم العالم للقضية الفلسطينية ، غير أنه كان مترددا بين عدة أساليب لانتهاج السياسية الملائمة في هذا المضمار طلب مني الرأي والنصيحة بصورة أخوية في هذا الشأن . واتخذ على الفور قرارين هامين أولهما القيام مجدا بزيارة لغرب إفريقيا وثانيهما تعزيز العون للدول الإفريقية الواقعية جنوب الصحراء ومرة أخرى أنجر ما وعد .
وقد تلقيت بكثير من الأسى نبأ اغتياله في مارس 1975م وكنت حينها في نواذيبو فتوجهت منها في الحال إلى الرياض لحضور تشييع جنازته لكني وصلت بعد انتهاء مراسيم الدفن التي تمت بسرعة وببساطة ، وقد تمكنت على أي حال من تقديم التعازي باسمي شخصيا وباسم بلدي إلى خلفه الملك خالد . وظلت العلاقات مع الملك خالد وولي عهده فهد جيدة سواء على الصعيد الشخصي أو على مستوى الدولتين فقد استقبلوني على الدوام بحفاوة كلما حللت ببلادهم ولا سيما في 26نوفمبر 1976م أثناء تأديتي مناسك الحج وكنت قد جئت قبل ذلك بدعوة منهم في زيارة رسمية جديدة في الفترة ما بين 15 و21 يونيو 1976م رفقة عبد الله بن بيه وحمدي ولد مكناس ومن جهة أخرى أسهمت المملكة العربية السعودية على إثر زيارتي لها سنة 1971م في تمويل العديد من مشاريعنا التنموية ولا سيما طريق الأمل الرابط بين نواكشوط والنعمة وزيادة على ذلك فقد ساعدتنا كثيرا في تمويل حرب إعادة توحيد الوطن فبفضلها لم تتمحمل ميزانية الدولة أية أعباء لشراء السلاح والمعدات العسكرية طيلة فترة الحرب .
وفي صائفة 1976 زار ولي العهد السعودي الأمير فهد نواكشوط زيارة خاطفة عبر لنا فهيا عن تضامن بلاده معنا وأحاطنا علما بأن بلاده تنوي القيام بوساطة بني أطراف النزاع الصحراوي "شريطة أن تتفق البلدان الشقيقة الثلاثة على مبدإ تلك الوساطة وقد أعطينا موافقتنا فورا على هذا الاقتراح غير أن الوساطة لم تؤت أكلها .
كيف لبلد صغير مثل بلدنا ناء عن الديار المقدسة أن يحظى بهذا التضامن الوثيق من رعاة الحرمين الشريفين ، فعل مرد ذلك أن علماءنا يحظون منذ قرون بتقدير كبير في عموم العالم العربي ولا سيما في المملكة العربية السعودية وكان الملك فيصل نفسه شديد الاهتمام بما يمت للدين بصلة وأخبرني بذلك شفهيا وكتابيا ، وقد استرعى انتباهه إطلاقنا الجمهورية الإسلامية الموريتانية على بلاد شنقيط منذ فترة الاستقلال الداخلي ثم إنه كان يقدر ما نتحلى به من أصاله .
صاغه ونسفه من مذكرات الرئيس المختار ولد داداه الأستاذ عبد المجيد إبراهيم