بعد مؤتمر لابول 1990 ، أيقن الزعماء الأفارقة أن المساعدات التى كانت تاتيهم "رغدا" من "أسيادهم" الفرنسيين ، باتت مرتبطة بإقامة "ديموقراطية " ( من أي نوع ) ، فى بلدانهم ، أي أن أسباب " الأرزاق الخارجية" لم يعد من الممكن الأخذ بها إلا بعد فتح صناديق الاقتراع فى انتخابات
حرة ونزيهة تتيح لشعوبهم أداء "الواجب المدني " ، وإطلاق الحريات العامة كحرية الصحافة ، و تحسين ملف حقوق "الإنسان" ، و أنه ما لم يتم ذلك فإن "التبادل مع الشمال لم يعد ممكنا إلا بشروط " حسب الوزير الفرنسي السابق رولاند دوما الذى رأى أن المؤتمر "مثل تحولا تاريخيا فى العلاقات الفرنسية الإفريقية و بأن رياح الشرق لا بد أن تهب يوما على الجنوب . و فى مثل هذه " الشروط" انبرى الزعماء الأفارقة ، كل يفصل على مقاساته ديمقراطيته الخاصة ، فى ظل استقرار ، و بروح" مدنية ". وقد كان من تداعيات الاستجابة لذلك الإيعاز الفرنسي علينا فى موريتانيا ، أن حظينا بحرية تعبير فائقة ، وصلت أوجها بحرية إعلام غير مسبوقة فى محيطنا العربي ، إن لم يكن أوسع نطاقا منه ، وهي حرية أذكاها ما أذكاها من دخول غير المهنيين إلى ميدان صاحبة الجلالة ، و كان ماكان من تجاهل أو جهل لأبسط قواعد المهنة الصحفية ، مما ترتبت عليه انزلاقات و احتكاكات سببها القذف و التجريح و التشهير والمس من أعراض الناس ، بدافع البحث عن الشهرة أحيانا ، أو الظهور بمظهر الواعظ أحيانا أخر ، لكن ما حصل مع ما سميناه "تحرير الفضاء السمعي البصري " حين تعددت " الفضائيات" و "الإذاعات الحرة" التى لم تثبت بعد - للأسف- أنها على مستوى النضج المطلوب ، و الأهلية الضرورية لاستغلال الحرية الممنوحة لها ، مع استثناءات طبعا فى بعضها ، ما حصل بعد هذا "التحرير" الذى استبشرنا به ، كان أنزع إلى السلبية ، فبغض النظر عن "المادة الإعلامية" التى تبثها هذه المحطات ، فإنها تحولت عند أول امتحان لها إلى منابر رخيصة لبث كل دعوة من شأنها التحريض على الشقاق أو التفرقة بين المواطنين ، بل باتت - بكل أسف -منابر تدق إسفين الفتنة بين مكونات هذا الشعب المسكين ، و تثير الشحناء و النعرات بين شرائحه ، و تشجع على " التشرذم الاجتماعي " بدل أن تعمل على تنوير الرأي العام حول قضاياه الملحة ، و تساهم فى تعزيز لحمة الشعب ببعضه ، من خلال تبنى مقاربات إعلامية هادفة ، فأي خدمة إعلامية هذه التى تفرق و لاتجمع ، و تشتت ولا توحد ، أين هموم المواطن العادي الباحث بعناء عن لقمة العيش ؟ كأن محطاتنا الإعلامية تحشد الدعم لخطاب مليئ بالحقد والكراهية ، لتوهم العامة أن مثل هذا الخطاب يمكن تمريره دون كبير عناء بل دون أدنى متابعة ، وكأن لا دعوة - فى المقابل - للتقريب بين مختلف شرائح هذا المجتمع الذى يجمعه الدين الإسلامي الذى لا ينفرط عقده . اعتدنا فى محطاتنا و إذاعاتنا ،أن نستضيف بانتقائية مبيتة - ربما- ضيوفا ، يملؤون شاشاتها بما يحلو لهم من دعوات سافرة عن وجهها الحقيقي ، لدعوات لا تنقصها الأضواء "الكاشفة" ، و لأصحابها أن يجهلوا و يتجاهلوا أنهم بذلك يستحثون غيرهم نحو ردات الفعل ، بل و يحرضون على الكراهية ، و المفارقة أن زملاءنا الذين يديرون حلقات الحوار ، قد يفقدون أحيانا الشجاعة فى توجيه "الضيف" نحو موضوع الحلقة و إلزامه بالتقيد به ، حتى لا تتحول الحلقة إلى منبر لترويج أفكار هدامة ، مدمرة بل و مقيتة ! ولعله من الضروري أن ندرك أن "الاتجاه المعاكس " كبرنامج له مشاهدوه ، وهو على علاته ، قد لا يوفق مقدمو البرامج الحوارية لدينا فى تقليد طريقته ، حينما ينتقون ضيفين مثلا ، كل منهما من شريحة معينة أو ضيفين أحدهما من الموالاة و الآخر من المعارضة ، أملا فى سخونة مفترضة أ وتفاعل قد يمنح الحلقة مصداقية من جمهور المشاهدين أو المستمعين . ولن نبتعد من الموضوعية ، إن نحن ملكنا الشجاعة أن نقر بأن ما نسبح اليوم فيه من إعلام بات محبطا ، رهين البحث عن "ثغرات" اجتماعية ، فى طريقها إلى الزوال ، لاستغلالها عن وعي ، و لحشد أكبر جمهور من المتابعين ، و كأن الأثير حلبة للصراع ، و الاصطفاف ، والتنازع ، فلا يحسن أن تكون هذه هي الغاية القصوى من أي برنامج على الأثير ! قد يعتقد البعض خطأ أننا هنا فى مجال جرد ل"مثالب " إعلامنا السمعي البصري ، لكننا نرغب عن ذلك ، لأننا ندرك أن هذا الإعلام الفتي الناشئ ، يواجه تحديات جساما و يعيش تحت وطأة إكراهات مادية ومعنوية ، تجعل من الإنصاف أن نرى من الكأس نصفها المليئ ، و أن نسجل بعض "النجاحات" التى حققها بعض إعلاميينا المهنيين ، بيد أننا ، وبدافع الغيرة على هذه المهنة التى كثر أدعياؤها ، بل و بحس مرهف لحجم الخطر الذى أصبح يتهدد انسجام مجتمعنا ، بل و يضربه فى صميمه وعمقه ، نرى أن من واجب هذا الإعلام العمل على "تضييق " الهوة بين مكونات شعبنا ، و تقريب وجهات النظر سبيلا إلى اتحاد الكلمة ، و تعزيزا للوحدة الوطنية ، و أملا فى تغيير الصورة النمطية المغروسة فى ذهنية المشاهدين والمستمعين النافرين من هذا الإعلام ، كل على سجيته ، و وفق قناعته ، فى ظل دور "محتشم"أحيانا للجهات الوصية على محطاتنا الإذاعية والتلفزية ، تلك الجهات التى يتهمها البعض بالتغاضي أحيانا عما يبث من مواد إعلامية بغض النظر عن محتواها .و من الضروري - و الحالة هذه - أن يلتئم القائمون على تلك المحطات فى مشاورات علنية و صريحة و فى أقرب فرصة ممكنة ، بغية تدارك الأخطاء الناجمة عن الاستغلال السيئ لتلك المنابر الإعلامية ، و للخروج من اللقاء بميثاق شرف يحدد بوضوح ، الرسالة التى ينبغى أن تحملها تلك المحطات ، و ضوابط تلك الرسالة ، و يفرض العمل على احترام المتابع مشاهدا أو مستمعا ، من خلال قطع الطريق على كل من يحمل أفكارا لا تخدم لا الوطن ، و لا المواطن ، ولكي نبقى الباب موصدا فى وجه كل دعوة من شأنها الإضرار بوحدة هذا الوطن أيا كانت دوافعها ومهما كانت غاياتها و أهدافها غير المعلنة .