ظل صفو الوداد مع السلاطين مطلبا ضروريا لكل الراغبين في العيش الكريم بلا تضيق و تبذل في ذلك أغلى الأثمان من مال و مبادئ و أخلاقيات و مواقف عبر العصور.
منذو أمد بعيد و دأب السلاطين بوسائلهم الخاصة المشروعة و غير المشروعة أن يجعلوا ذلك الصفو مشروطا بموافقة أمزجتهم المتقلبة حسب المناخ السياسي لا يهمهم مما كان قبلهم سوى ما يؤول إليه في ظل وجودهم .
تسابق الكثيرون بخطى حثيثة فلم يتخلف إلا القلة السابحون عكس تيار الملذات الدنيوية فطمسهم الركب السلطاني في غبار عابري المضمار ركبا و مشاة حاجبين من لم يشاركهم المسير عن أضواء سلطانهم الآئلة للخفوت كما سابقاتها .
تعددت الطرق إلى السلطان بتعدد مخاييل الطالبين و تعددت المطامع فطالب حظوة بمال و طالب حظوة بجاه أو بمرتبة و طالب نجاته من التضييق ليس إلا و خائف من التهديد و خانع لم يبقى من أثره إلا اسمه يضعه السلطان حيث شاء.
في خضم هذه المعركة المريرة الطويلة ظلت المنطقة الرمادية لها فرسانها الأفذاذ لا يكدرهم إلا التيه عن سلطانهم الدائم لا تثنيهم عن ذلك مغريات سلاطين الدنيا و لا ضجيج مناوشات التائهين بأي ذريعة كانت.
أحيى كل مضماره بحث الخطى و تزود للمسير بما يشتهي و حلق كل بأجنحته حيث يضع بصره في طرق متوازية لا يلتقي أصحابها ما لم يبدل أحدهما وجهته عمدا فكان الصمود مستحيلا في جهته مستعصيا في جهة أخرى على من لم يوطن نفسه على دفع الثمن من صباه مهما كان.
دون التاريخ أسماء قلة لم يروا أنفسهم في هذه الدنيا إلا ضيوفا عابرين لا يعني لهم زخرف هذا الدار أي شيئ فلم يلحظوا وجوده أصلا بينما تشاغل به آخرون عما أنيط بهم أيما انشغال و من بين أولئك القلة المتوارية عن الأنظار من لم تطلع الناس عليه إلا بفجيعة فقده للأبد إذ لم يكونوا معه فيما اختاره و لم يكن يشغل نفسه بأسواقهم الحياتية.
من بين أولئك القلة الأفذاذ نجم عصره الصامد الصامت : العلامة الحاج ول السالك ول فحف عميد الزهاد في عصره إذ لم تجد مغريات السلاطين و أهل الدنيا منفذا إلى قلبه رغم شظف العيش المشهود و رغم زحام الزاحفين و المتسلقين أسوار السلطان خوفا و طمعا .
لو كان الفقر مبررا للارتماء في أحضان سلاطين الدنيا لكان العلامة الحاج أول الداخلين في ذلك المضمار إذ لازمه الفقر من صباه حتى مماته و لم يسعى لتحصيل وسخ الدنيا الزائلة و لو كان الدخول في عباءة السلطان و التماهي معه من الدين لكان العلامة الشيخ أول الواصلين و لو كان السعي للشهرة غايته لكفاه المقام بأي مدينة مؤونة الاشتهار بين عشية و ضحاها.
لقد زهد العلامة في الدنيا و زينتها فأتته و أهلها طائعون من جميع أصقاع العالم مما لم تطأه قدماه التي لم تحملاه خارج موطنه إلا لطلب العلم أو لأداء الحج و العمرة.
لم يشتغل بأضواء الإعلام و التصدر لعناوينه العريضة فوصل إشعاعه مشارق الأرض و مغاربها دون أن يبالي.
توارى عن الأنظار الرسمية ليتفرغ لما يراه أعظم نفعا فوطن نفسه أن لا تغريه اللذة الآنية فجهز للرحيل السقاء و المطية و الآنية فجعل مرتعه في دفتي كتاب بين دفتي جبلين يراوح بين الكتاب و السنة تأوي إليه النفوس المثقلة بأعباء التيه الدنيوي فكان لهم الدليل و الطبيب الآوي بلا منة .
تربع عرش التقى و الورع بلا منافس في ربوعه فكان هزبر السنة في زمن البدع و الاهواء و بحر العلم الذي لا تكدره الدلاء شامخا شموخ جبليه راسخا رسوخ مشاربه العلمية منهمكا في ترويض نفسه على الفرار من ملذات الدنيا إلى طلب منازل الآخرة الصرفة أخلص لله و تعلق به عن غيره فنال عطاءه و لم يطرق بابا لغيره تقاصر عن أهل الدنيا فوردت إليه الافئدة العطاش لزاد الآخرة فما غره تعداد الواردين و لا مديح المادحين و لا كبر الصيت و المنزلة العلمية فظل كما تعود لا يرى لنفسه منزلة على الناس و لم يتباهى بفضل و لا تسخير و لا كرامة و لا صلاح و لم يمنح لزائريه غير المجمع عليه في الكتاب والسنة مبتعدا عن الشبه هاربا من كل ما لغط خشية ما يشيب درب آخرته و قد اختار من منازل الآخرة أقساها ظروفا و أوعرها تضاريسا كأنه يضع حاجزا بذلك بينه و بين المنبهرين بالمدنية و انبهر هو بأوصاف منازل الدار الأبدية فعاش لها قرنا و نيفا لا تحجبها عنه مفاتن الحياة فظل مجاهدا منفقا متوكلا متعففا لا مبتغى له سوى النجاة من درن الدنيا فكان له ما أراد و قد تركها لأهلها و عاد لأهله بعد رحلة كنا فيها متشاغلين عنه و لم ننتبه إلا على ناعيه فيا لعظم عظم المصاب الذي لا راد له و كأننا نردد قول الشاعر: أرى الحزن لا يجدي على من فقدته ولو كان في حزني مزيد لزدته.
تغيّرت الأحوال بعدك كلها فلست@ أرى الدنيا على ما عهدته
عقدتُ بك الأيمان بالنّجح واثقاً @فحلّت يد الأقدار ما قد عقدته
وكان اعتقادي أنك الدهر مسعدي @فخانتني الأيام فيما اعتقدته
أردت لك العمر الطويل فلم يكن@ سوى ما أراد الله لا ما أردته
فرحم الله ذلك الطود المهيب الشامخ الجواد أبي النفس و بارك في خلفه و عظم أجرنا فيه
بقلم : الخليفة العتيق / أبو الفحفاح