نوافذ (نواكشوط ) ــ سبق أن ذكرت في حلقة سابقة من هذه الذكريات أنني كنت حريصا على تحفيز طلبتي من الإخوة الزنوج على دراسة اللغة العربية بوسائل مختلفة، تعتمد أحيانا على استغلال البعد الديني في القضية كما تعتمد أحيانا أخرى على إزالة اللبس حول قدرة هذه اللغة.
فقد خاطبني أحد طلابي مرة عندما وجد صعوبة في فهم ما ألقيت: اللغة العربية معقدة جدا، ففكرت في الرد المناسب الذي سيؤثر فيه وفي زملائه ثم قلت: هل ستتعلم الإنكليزية عندما تجد فرصة للذهاب إلى الولايات المتحدة؟ فأجاب: نعم، نحن الآن نتعلم اللغة الفرنسية لكي نتفاهم مع الفرنسيين أليس كذلك؟ بلى، هل نحن متأكدون أننا عباد الله ويلزمنا أن نسأله دائما؟ نعم، ما اللغة نخاطبه بها كل يوم في صلواتنا؟ أليست سورة الفاتحة عربية؟ أليس لفظ "الله أكبر" عربيا؟
ما دمنا نلزم أنفسنا بتعلم لغات الآخر فرنسا أو أمريكا لأجل التفاهم معه فينبغي أن نتعلم اللغة نخاطب بها الله كي نعبده كما ينبغي ونخاطبه الخطاب المناسب.
وقد لا حظت أثرا بالغا لهذه الأسئلة لأن تمسك القوم بعقيدتهم كما سبق أن ذكرت قوي.
وفي قسم علمي فرنسي نهائي أسند إلي تدريس مادة التربية الإسلامية وكان من بين محاور البرنامج تقسيم التركة بما فيه من سهام وحجب وتعصيب وانكسار وتصحيح..
وكانت الدروس النظرية الأولى في غاية الصعوبة بسبب الحاجز اللغوي والطابع العلمي الرياضي لمسائل التركات، وفجأة خطر لي أن أن أتخذ مسارا آخر في تدريس المادة وهو تدريسها بواسطة الكسور (مصطلح رياضي)، ثم تعززت الفكرة لدي لسببين أولهما أن الإلقاء المتمسك بمصطلحات كتب الفقه مثل أصل المسألة والسدس والربع والثمن وغيرها لن يؤدي إلى نتيجة، وثانيهما أن ارتباط اللغة العربية في أذهان القوم بالكهنوتية والبعد عن العلوم التجريبية قد يتناقص أو يزول إذا ما قمت بالتجربة.
وقد نفذت ما فكرت فيه وتفاهمت مع الطلاب عن طريق ترجمة المصطلحات الرياضية التي أجهلها في الفرنسية، فهذا الكسر: 1/2 مثلا أسألهم عن ترجمة المقام فيه وهو هنا العدد الموجود عن يمين الخط وعن ترجمة البسط وهو العدد الموجود في يساره، وبعد اتفاقنا على المصطلحات الفرنسية نبدأ في إعطائها أسماءها الفقهية وهكذا، وقد فاق نجاح التجربة توقعاتي حيث صار طلابي يخبرون طلاب الأقسام الأخرى بأن أستاذ التربية الإسلامية يدرس مادته عن طريق الرياضيات، وهو أمر في غاية الغرابة بالنسبة لهم فصار الكثير من طلاب الأقسام الأخرى يطلب الحضور لحصتي، لا حرصا منهم على التعلم بل لقضاء عجبهم من أمر لم يكونوا يصدقونه، لأن اللغة العربية والدين الإسلامي في نظرهم بعيدان كل البعد عن العلوم الرياضية.
وفي الأخير لا بد أن أذكر حوارا جرى بيني وبين أحد الطلبة حول أحداث الجامعة سنة 2011م حيث جرت صدامات بسبب الاختلاف حول التعريب فتعطلت الدراسة، ففي صباح أحد الأيام القريبة من هذه الأحداث سألني بعضهم عنها ونحن في بداية الدرس، فحاولت تجنب الحديث عن الموضوع لما قد يجره من حساسيات لا أريد الخوض فيها ولأنها ليست ضمن مهمتي التربوية، فتكلم قلة من الطلبة فيما بينهم ثم بدأ الحديث يتجه نحو النهاية، وفجأة توجه إلي الطالب المذكور قائلا: نحن لسنا عربا (بلغة فرنسية) فما كان مني إلا أن بادرته دون روية: ولكنكم أيضا لستم فرنسيين (باللغة نفسها)، فساد القاعة وجوم ما قطعه إلا استئنافي للدرس الذي رأى فيه الجميع مخلصا من ذلك الجو.
وللعلم كان ذلك الطالب من أفضل الطلاب مستوى في اللغة العربية لكن الشحن اللغوي الفئوي قد أثر فيه، وكراهية اللغة العربية ليست خاصة بهؤلاء فقد جمعتني الحافلة مرة مع شيخ زنجي (فلاني حسب ما يبدو من مظهره) وبجانبه شاب عربي، وكانا يتحدثان حول التعريب واللغة العربية وما فيها من سلبيات فكان مما قال الشيخ: "المغرب وتونس لا تعليم فيهما إلا باللغة الفرنسية"، فلم أتمالك حتى قلت له: وما الذي استفادته الدولتان من اللغة الفرنسية؟ هل صارتا أرقى وأفضل من الدول الأخرى؟
فبادرني الشاب الجالس بجانبه قائلا: صدّام شنق وانتهى أمره ثم أطلق الكثير من العبارات المتشنجة التي تعبر عن حقد شديد على اللغة العربية فاندهشت لأنه فاجأني بما صدر عنه ثم أنصفت الشيخ الزنجي لأنه لم يفرغ ما في جعبته كالشاب، بل كان يحاول الإقناع عن طريق القياس على تونس والمغرب.
وعلى الرغم من كل هذا الاختلاف علمتني التجربة أن الزنوج ليسوا كلهم ضد اللغة العربية، وأننا حين نبذل الجهد المناسب في تعليمها لهم ونتحاور معهم حولها يمكن أن نصل إلى وحدة لغوية، نتفاهم من خلالها ونتفاعل مع الآخر من خلال اللغات الحية الأخرى.
المفتش أحمد ولد أبوبكر