سأسرد هنا بعض الذكريات التي تؤكد ما ذكرته في المقال السابق فقد ذكرت هناك أن الوصف بكراهية اللغة العربية لا يجوز تعميمه على كل أفراد المكون الزنجي، وأكبر دليل على ذلك أن الكثير من هؤلاء متخصص في اللغة العربية يكتب بها ويخطب كما يفعل غيره من العارفين باللغة العربية.
وسأحكي هنا قصة حدثت لي في إحدى القرى الزنجية تدل على تأصل اللغة العربية في نفوس ألئك القوم كما تدل في الوقت نفسه على نفور بعضهم منها لأسباب سبقت الإشارة إليها.
كانت السنة الدراسية قد أشرفت على النهاية وكنا في شبه اجتماع لهيأة التدريس بالإعدادية ومعنا مدير المؤسسة والمراقب العام وكلاهما زنجي، فذكر المراقب العام في حديثه لنا أن حفل اختتام السنة الدراسية سيتضمن فعاليات متنوعة، من بينها لقطات تمثيل وترفيه تحاول تجسيد ما حصله الطلاب طيلة السنة الدراسية ، فأبديت استعدادي لإعطاء الطلاب نماذج من اللغة العربية لكن المراقب العام اعترض بحجة أن التلاميذ لا يتقنونها، فرددت بأن التغلب على تلك الصعوبات من مهمتي وأنا أعرف كبف أتغلب عليها، لكنه كان مصرا على إقصاء اللغة العربية من ذلك النشاط فقلت معلقا: البرنامج المقرر على الطلاب به مواد فرنسية ومواد عربية ولا ينبغي أن نفضل بعضها على بعض، وقد فطن المدير لقصدي وهو كونه رئيس المؤسسة الذي يتحمل مسؤولية تطبيق البرامج التربوية، فتدخل منهيا النقاش وطلب مني مرافقته إلى منزله فلما انفصلنا عن بقية الزملاء، بدأ يحدثني عن الطرق التربوية التي كان شيوخهم يسلكونها في تعليم الأبجدية العربية للأطفال، وذكرلي أمثلة كثيرة كلها مستوحاة من بيئتهم الخاصة لا أتذكر منها الآن إلا تشبيه حرفي الصاد والضاد بالبطن، كمثال يسهل على الأطفال تمييز هذين الحرفين عن بقية الحروف.
وكان ردي عليه أنني على علم بأن تلك المجتمعات كانت على دراية كبيرة باللغة العربية ولم تكن تتبادل الرسائل إلا بها، ثم ضربت له مثالا بمشاهدتي خلال الثمانينات رسالة كتبها شاب وولفي بلغته الأم وحروفها عربية، فعقب هو بأن مشكل اللغة في موريتانيا وليد الخلاف بين الحركات السياسية القومية، مثل الناصريين والبعثيين والنصيريين - حسب قوله - والحركات الزنجية.
وللأمانة أأكد أن هذا الرجل على الرغم من ثقافته الفرنكفونية كان على درجة كبيرة من التدين وحب اللغة العربية والبعد عن كل الشبهات العنصرية.
كان هذا النقاش من آخر ما جرى لي هناك قبل أن أنتقل للعمل في مناطق أخرى، ولا أزال أتذكر لحظاتي الأولى في إعدادية أخرى من إعداديات الضفة حين أسند إلي تدريس مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية، فكان أول درس بدأت به من مادة التربية الإسلامية يتطلب التمهيد له بآيات من القرآن الكريم، فبدأت أتلو محاولا الترتيل وكان الاكتظاظ شديدا في القاعة فعدد الطلاب ما بين الثمانين والتسعين، فكنت كلما توقفت في نهاية آية ضجت القاعة بالتأمين "آمين" الذي يصم الآذان، فأغضبني تأمين الطلاب ظنا مني أنهم يقصدون به التشويش على درسي ويستهزئون بالمادة التي عانت وعانى أساتذتها في موريتانيا كلها.
وبمرور الزمن بدأت أفهم أسباب ذلك التأمين فالطلاب قد تعودوا على أن اللغة العربية لغة الدعاء في الجمعات والجنائز لاغير، وقاسوا على ذلك ما يجري داخل القسم من دروس فهم متأكدون أنهم في عبادة حين يؤمنون حسب الاعتياد.
إن اللغة العربية بالنسبة للكثير منهم لا تصلح إلا لهذه الوظيفة التعبدية وقد كنت مصرا طيلة وجودي هناك على أن لا أضيع الفرصة من أجل تغيير هذه الصورة، فكنت أحاول أن أحبب اللغة العربية إلى ألئك الطلبة من خلال مجموعة من الوسائل، منها القول إن الموظف الموريتاني الناجح هو الذي يفهم اللغتين العربية والفرنسية، لأنه يمكنه التفاهم مع العارفين بالعربية فقط كما يمكنه التفاهم مع العارفين بالفرنسية فقط، ومنها تشجيع كل من يريد تقدم المستوى ولو كان ضعيفا في اللغة العربية بزيادة درجاته في الاختبارات والامتحانات.
ولا يسعني هنا إلا أن أذكر قصة طريفة حدثت لي أثناء تلك السنة مع قسم آخر كان فيه طالبات لا يبالين بوضع الأغطية على رؤوسهن، ولم أكن من الأساتذة الذين يريدون فرض هذا الغطاء على الطالبات دون أن تكون لديهن قناعة ذاتية به، لأنني لاحظت أن تلك الأقسام عندما تحين فيها حصة الأستاذ الذي يفرض الحجاب، يذهب طالباتها إلى أقسام أخرى لاستعارة الأغطية استعدادا لاستقبال الأستاذ به، وحين تنتهي الحصة يعود الطالبات إلى سيرتهن الأولى وكأن شيئا لم يحدث.
أما أنا فقد اعتبرت الغطاء شرطا لزيادة الدرجات بالنسبة للطالبات لكن هذه الزيادة مشروطة بالتزامه داخل القسم وخارجه كمظهر ثابت، وهنا احتج الرجال من الطلبة فطالبوا هم أيضا بحقهم في الزيادة كالبنات وقال أحدهم ساخرا: هل نغطي نحن أيضا رؤوسنا كي نحصل على زيادة؟ فقلت: لا ولكن من شاهدته منكم مواظبا على صلاة الجماعة في المسجد فستكون له زيادة مماثلة للزيادة يستحقها البنات.
وكان من بين هؤلاء الرجال طالب يسكن خارج القرية التي توجد فيها الإعدادية فهو لن يجشم نفسه عناء البقاء في القرية حتى يحضر صلاة الجماعة لأشاهده، فلجأ إلى حيلة أضحكتني وأضحكت زملاءه فقد حضر في اليوم الموالي عند الساعة الثالة من يوم صيفي قائظ، وهو واضع حول رأسه لثاما لا يضعه إلا الشيوخ المداومون على ارتياد المساجد وعلى عينيه نظارتان من نظاراتهم وحول معصمه سبحة تشبه سبحاتهم..
وعلى ذكر هذا المظهر الدال على نوع من التدين لا يسعني إلا أن أنبه إلى عمق إيمان ألئك القوم على الرغم من كل ما يشوبه كسائر المسلمين في موريتانيا وفي غيرها، فقد دخلت لأول مرة على قسم بإحدى المدارس الحرة في نواكشوط فوجدت الرجال والنساء مختلطين على مقاعد الدراسة فسلمت ثم قلت ينبغي أن يتميز الرجال عن النساء في المقاعد فقال أحد الرجال بلغة فرنسية: هذه ليست مدرسة قرآنية فرددت ممهدا لما أريده باللغة نفسها هل هذا صحيح؟ فقال أكثرهم: نعم وسمى المدرسة، فقلت باللغة نفسها: ولكننا جميعا مسلمون فاندهشوا واستجابوا للطلب فورا.
أحمد ولد أبو بكر