لاحظت في الفترة الأخيرة تعدد المنشورات التي تتحدث عن القضية اللغوية في موريتانيا كما لاحظت تكرار الإشارة إلى إخوتنا الزنوج في هذا الشأن بين من يعتبرهم عائقا دون توحيد اللغة وبين من يتعاطف معهم فيرى أن اللغة الفرنسية يجب أن تبقى مراعاة للأعداد الكبيرة التي تلقت تكوينها بهذه اللغة من ألئك.
أعتقد أن التعرف على المجتمع الزنجي من الداخل قد يفيد الذين ينشغلون بالكتابة في هذا الموضوع، ولهذا السبب سأعرض هنا تجربتي التي دامت عدة سنوات على القراء المنشغلين بالهم اللغوي الموريتاني.
ولا يسعني في بداية عرض هذه التجربة إلا أن أأكد أن كراهية اللغة العربية التي يتهم بها إخوتنا الزنوج غير صحيحة، وإذا كان بينهم من يكرهها لأسباب سأشرحها فإن بين الموريتانيين العرب من هم أشد كراهية للغة العربية.
ولا يسعني أيضا إلا أن أذكر بأن تجربتي كانت محدودة في الزمان والمكان لأنها لم تدم إلا سنوات قليلة وكانت مع المكون البولاري فقط، فلنر ما الأسباب التي جعلت هؤلاء يختارون اللغة الفرنسية ويفضلونها على اللغة العربية؟
يتكون المجتمع البولاري من عدة طبقات لكل طبقة وظيفتها الخاصة بها أعلاها طبقة النبلاء وهم الذين يمارسون الرئاسة العامة في القرى البولارية، تليها في السلم الاجتماعي طبقة "التورودو" (الزوايا) وهم أصحاب الوظيفة الدينية والعلمية، وهناك طبقات أخرى منها المغنون والصناع التقليديون والصيادون "تبل" والعبيد.. والحدود بين هذه الطبقات ووظائفها صارمة لايجوز لأي كان اختراقها فالنهر خاص بطبقة الصيادين ولا يجوز للآخرين أن يمارسوا الصيد فيه ومن سولت له نفسه دخول المهنة على أصحابها الأصليين ومنافستهم فيها سيندم ويموت في قاع البحر بأي ثمن، والمسجد خاص بالتورودو ولا يجوز لأحد أن يدلي فيه برأي بل الأسرة المسؤولة عن المسجد هي وحدها المخولة للبت في وقت الأذان أو الإقامة وليس للآخرين إلا حق الصلاة داخل المسجد، أما أن يطالبوا بالإقامة لأن الوقت حان أو يتقدم أحدهم لأن أسرة الإمامة لم يحضر من أفرادها أحد فهذا غير ممكن.
فأي هذه الطبقات - إذن - أكثر صلة باللغة العربية؟ إنها طبقة التورودو بالطبع ولغتها العربية في أغلب الأحيان قاصرة على مناسبات محدودة كالدعاء للأموات في صلاة الجنازة وخطب الجمعة وعقود النكاح...
والوظيفة التي تؤديها هذه الطبقة لا بد أن تنظر إليها الطبقات الأخرى بعين الريبة لأنها تعيش في الأغلب على حساب المجتمع، فالمساجد تنادي في أبواقها دائما بضرورة التبرع لصالح المسجد والضيوف القادمين من جهات أخرى.
وطلاب الكتاتيب "ألمود" يتسولون كل يوم وما يجمعونه يسلمونه لشيوخهم في شكل ضريبة يومية، وهم أصحاب هيأة رثة فثيابهم وأفواههم وسخة من آثار الطعام الذي ينالونه من صدقات المنازل التي يطرقونها واحدا واحدا..
فاللغة العربية - إذن - سيئة السمعة في بعض شرائح المجتمع الزنجي ودعوني أذكر لكم قصة تؤكد ذلك رواها لي معلم للغة العربية وهو من غير التورودو، فقد حكى أن معلمي المدرسة التي كان يدرس فيها وأغلبهم معلمو لغة فرنسية كانوا يقدمون دروسا نموذجية بشكل دوري، فجاء الدور على صاحب القصة فقدم درسا في مادة الهندسة للسنة السادسة الابتدائية حول شكل المعيَّن باللغة العربية، ولما أنهى درسه وبدأ زملاؤه يقدمون ملاحظاتهم على الدرس، كان من بينهم من أظهر تعجبه من قدرة اللغة العربية على استيعاب تلك المادة وتدريسها، فقال بالحرف الواحد: إنه لم يكن يظن أن اللغة العربية يمكن أن يقدم بها درس من الهندسة.
وإذا عرفنا أن أغلب أبناء الطبقات الأخرى من غير التورودو لن يفكروا في تعلم اللغة العربية، لأن أغزرهم علما باللغة العربية وعلوم الشرع لا يمكن أن يستمع لفتواه لأنه ليس من الطبقة التي تملك حق الفتوى، ولا يمكن أن يصلي إماما لأنه ليس من تلك الطبقة أيضا فما السبيل أمامه؟ إنه اللغة الفرنسية التي تخوله الوظيفة والعمل وكسب العيش دون أن يكون كلا على أحد.
وإذا حصل منا الكذب على الملأ فلا ينبغي أن نكذب بمفردنا كما يقول المثل الحساني، فاللغة الفرنسية في موريتانيا لا زالت إلى يومنا هذا هي التي تخول العارفين بها الوظائف المهمة.
وإذا عرفنا أيضا أن طالب الكتاتيب البولاري كان ولا زال إلى الآن يعيش على الهيأة المقززة التي ذكرنا سابقا، وعرفنا أن طالب المدرسة النظامية يخرج إلى مدرسته في أحسن هيأة يمكنه أن يظهر فيها، فأي الهيأتين ستميل إليها النفس البشرية بالفطرة؟ إنها بالطبع الهيأة الحسنة.
وإذا عرفنا أن تعصب القوميين العرب في موريتانيا للغة العربية كان سببا في تعصب القوميين الزنوج للغة الفرنسية استطعنا أن نفهم الكثير من أسباب وجذور المشكل اللغوي في موريتانيا ومن ثم محاولة العلاج.
فتركيبة المجتمعات الزنجية من أهم جذور المشكل كما أن تعصب القوميين العرب كان من أسبابه، وأنا حين كنت مدرسا في المؤسسات الثانوية هناك لاحظت كثرة كتب اللغة الفرنسية وتنوعها في المدارس الابتدائية، ولاحظت في المقابل ندرة شديدة في كتب اللغة العربية سواء كانت مقررة في البرامج أو غير مقررة، فلماذا لم يبادر المهتمون بتشر اللغة العربية وترسيمها إلى تزويد تلك المدارس بكفايتها من الكتب ولماذا لم ينشئوا معاهد خاصة بتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها؟
وعلى ذكر هذه المعاهد ينبغي القول إن الدارسين في الموجود منها أغلبهم ليس من الزنوج فهي معاهد قائمة على خداع الممولين الأجانب.
وفي الأخير لماذا لم يظهر القوميون العرب للزنوج نوعا من الاهتمام بلغتهم كبادرة حسن نية ليتراجع الزنوج في المقابل أو بعضهم عن مقتهم للغة العربية؟
بقلم المفتش : أحمد ولد أبو بكر