مَقَتَت أمة الإسلام - سلفا وخلفا - الحجاجَ بن يوسف، فقالت طائفة من علمائها بكفره، وقال راشدٌ من خلفائها: "لو تخابثت الأمم، وجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بالحجاج لغلبناهم"، وقال صالح من صلحائها: "كفى بالرجل عمىً أن يعمى عن أمر الحجاج"..
دُونَ كبير تفتيش في سيرة الرجل، ومنهجه، يستخلصُ المتتبع، ما وراء مستوى المقت هذا: فقد أسرف الحجاج في الدماء، وفاءً لِـ "مذهب" عنده، يرى فيه وجوب الطاعة العمياء للحُكَّام، وأن أي خلاف لهم كُفْرٌ، يُحِلُّ دم صاحبه، وفِي ذلك يقول: <<ولله لو أمرتُ الناسَ أن يخرجوا من باب المسجد هذا فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم..>>، وانطلاقا من هذه الرؤية الفاسدة قَتَلَ الحجاج صبرا مائة وعشرين ألف نَفْسٍ، في عشرين عاما..
مع هذا، كان الحجاجُ يكثرُ تلاوة القرءان، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، ويتدينُ بترك المسكر، حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرا، وكان زاهدا في المال، وعند موته، كانت تركته، كما قيل: ثلاث مائة درهم، ومصحفا، وسيفا، وسرجا، ورحلا، ومائة درع موقوفة../ (كلُّ هذا في البداية والنهاية - لِـ ابن كثير)..
في زماننا هذا، يُشَاهَدُ شيء من "مذهب" الحجاج، ولكن مقلوبًا: فكما غالى الحجاج وتطرف في طاعة الحُكَّام، واستحل دم من يخرج عليهم بشيء، غالى أقوام في الخروج على الحكام، واستحلال دمائهم، ودماء من يعمل معهم، وأحيانا من لم ير الخروج عليهم، فأسرفوا في الدماء والقتل، وهم مع ذلك على تدين وتعلق بالقرءان، وتجنب للمحارم..
الظاهرُ من سيرة الأمة - سلفا وخلفا - مع الحجاج، أن التوسع في سفك الدماء، كان معيار الحكم بفساد "مذهبه"، ولم يشفع له التدين والتعلق بالقرءان وترك المحارم، وحب الجهاد، والزهد في المال..
سِجِلُّ تاريخ الأمة مفتوح، والمبشرات - رغم عمق الجراح - واعدة، فهل يَحْصُل الإعتبارُ بِمَقْتِ السلف والخلف للحجاج، قبل أن يصير حكم التاريخ نهائيا؟..
يومكم إلى توفيق ورؤية مستقيمة..
القاضي أحمد المصطفى