قد يقول قائل إن عنوان هذا العنصر حدث فيه خطأ، وأن الأصح هو "تكميم" أفواه الموظفين، بدل "تأميم" أفواههم..، لكن العنوان ليس به خطأ، فكلمة "تأميم" تدل أكثر على المقصود، وتعبر بصدق عن المعنى المـُراد هنا، فالتأميم هو في الأصل مصطلح اقتصادي، يعني نقل ملكية شركة ما، أو قطاع ما من القطاع الخاص إلى ملكية الدولة، لتصبح الدولة متحكمة في ذلك القطاع، أو تلك الشركة، وهذا بالضبط ما تسعى الحكومة الموريتانية الحالية إليه، فتكميم الأفواه لم يعد ممكنة في عصر التواصل المفتوح، لكن على الأقل تأميم الأفواه ممكن من وجهة نظر الحكومة.
وقد مثلت تصريحات الوزير الأول تحت قبة البرلمان قبل يومين مؤشرا واضحا في هذا الاتجاه، حيث أكد المهندس يحي ولد حدمين أن الحكومة ستفعل قوانين الوظيفة العمومية التي تفرض على الموظف احترام شيخه في العمل - حسب قول الوزير الأول-، وتمنع أي موظف من توجيه انتقاد لاذع للإدارة التي يعمل بها، ومن ثمة للدولة التي تشغله.
صحيح أنه لا أحد يمكنه أن يعترض على تطبيق القانون حتى لو كان جائرا، ولكن ما يخشاه المراقبون، والموظفون هو أن تقوم الحكومة بانتقائية في هذا المجال، لتعاقب من تشاء على ما تشاء، وتنتشر ظاهرة الإقالة، والمعاقبة بسبب تدوينة هنا، أو "فوكال" هناك، خاصة وأن معالي الوزير الأول ركز على من يتحدثون في الصالونات، وكأن الحديث في الصالونات بات جريمة تستحق العقاب!!!، ثم إن احترام قانون الوظيفة ينبغي أن يتم تطبيقه على الوزير الأول، وأعضاء الحكومة، والولاة، والحكام، فمعلوم أن القانون يفرض على الوزير أن يعامل جميع المواطنين بشكل متساو، فهو وزير للشعب، وليس وزيرا للسلطة الحاكمة، وموارد الشعب التي يديرها هي ملك لكل الشعب بالتساوي، معارضة، وموالاة، فهل يطبق الوزراء القانون في هذا الجانب ؟؟؟.
كما أن القانون يمنع على الوزير، والموظف استغلال منصبه العام لتحقيق مكاسب سياسية شخصية، وتصفية حسابات ضيقة باستخدام المناصب العمومية، فمبدأ الفصل بين ما هو عام للدولة، وما هو خاص للموظف مبدأ شبه معطل في الحياة الإدارية في موريتانيا، ووسائل الدولة هي ملك للموظفين يستخدمونها لمصلحة النظام الذي عينهم، والدليل على ذلك أن مكانة أي وزير، أو موظف مرهونة ببقائه في منصبه، وعندما تتم إقالته لم يعد له أي تأثير، ولا دور يذكر، لأنه فقد الوسيلة التي كان يستغلها لكسب التاثير، وبالتلي فقد ذهب النور الذي كان معه.
هذا التوجه نحو تأميم أفواه الموظفين بدأ تطبيقه على الفور بعد تصريحات الوزير الأول أمام البرلمان، وكان وزير التهذيب الوطني أول المتصدين للمهمة، حيث استدعى ممثلي النقابات التعليمية، وأبلغهم بهذا التوجه الجديد، وحذرهم من انتقاد الإدارة، أو التطاول على الحكومة، خاصة وأن معظم المنشغلين بالحقل الصحفي ينتمون إلى قطاع التعليم، ويبقى السؤال المطروح اليوم.. هل تريد الحكومة نقل ما يسمى لدى العسكريين بواجب التحفظ، نقله إلى الموظفين المدنيين كذلك، ليصبحوا ممنوعين من الحديث في الشأن العام، والسياسة، وانتقاد النظام، مثل العسكريين تماما..؟؟، وكيف توصلت حكومتنا العبقرية إلى هذه النظرية الخارقة، التي تقضي بتخيير الموظف بين وظيفته، وحريته في التعبير، وبين قطع لسانه، أو قطع رزقه ؟؟!، وهل ستحارب الحكومة ظاهرة التعيينات الكيدية، والإقالات التعسفية، مثل محاربتها لظاهرة تعبير الموظفين عن آرائهم في انتقاد الحكومة ؟؟.
معالي الوزير الأول.. السيد وزير التهذيب الوطني.. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا..؟؟، إن وظائف الموظفين ليست منة منكم، فقد حصلوا عليها بالكد، والجد، ويحميها لهم القانون، كما أن حرية الموظفين هي منحة إلهية، لا سبيل إلى تأميمها، أو تدجينها، أو فرض الوصاية عليها، فكرة خاطئة، ستضرب أهم إنجازات نظام ولد عبد العزيز في الصميم، وتوشك أن تختم له بسوء الخاتمة السياسية إلم تتراجع الحكومة عن تنفيذها على أرض الواقع.
موقع الوسط