عاطف علي صالح / القدس العربي
وصلت إلى مطار نواكشوط الدولي. كانت هناك عربة دفع رباعي في انتظارنا. الساعة تشير إلى الواحدة والنصف صباحا، نسمات بارده محملة بحبيات رمل بارد تلفح الوجوه وتعلمك عن قرب فصل الشتاء.
اقترب منا شخص ملثم، يرتدي «الدراعة» الموريتانية، طلب منا الصعود إلى السيارة، وانطلق بنا على الطريق الدائري، قبل ان يتوقف عند المخرج الشرقي للعاصمة نواكشوط. هبط السائق وبدأ في تعبئة كراتين المياه وسبائط التمر، سألني سريعا ما إذا كنت أريد شيئا، سألته عن مدة الرحلة، أغلق الباب وانشغل مع بقية السائقين في تفقد إطارات السيارات واختبار المحركات.
سنسلك الطريق القديم لرالي داكار الشهير، الذي انتقل إلى أمريكا اللاتينية مع احتفاظه بالاسم نفسه.
قال سائقنا لزملائه أن الطريق أصبح مهجورا، ولابد من توخي الحذر، كان يحاول الحديث همسا، لكني سمعت ما قاله، ومن يعرف اللهجة الموريتانية يعرف قوة مخارجها وسلامة كلماتها، يفخمون الجمل ويقطعون الحروف، لتسقط عليك المعاني حارة كالخبز البلدي، وهذا ما يفسر ربما صراحة الموريتانيين وجرأة مشاعرهم وتدفق مزاجهم، إن أتيت زائرا موريتانيا أول مرة، ستحرجك عفويتهم بداية، ولكن سرعان ما ستفهم انه لين طبع مرحب وهادر ولا يعرف الهمس.
انطلقت السيارات في الطريق المعبد المعروف بشريان الشرق، عقارب الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحا، مر الليل سريعا، ومع خيوط الصباح الأولى كان الطريق ضيقا، يتلوى كالحية تحت ضوء السيارة، تحيط به أرصفة صحراوية سطحها مستو وصخورها ملساء ناعمة، تأخذ أحيانا أشكال حيوانات ومخلوقات فضائية، بسبب نحت الرياح، ستؤنسنا هذه المخلوقات طيلة الرحلة وهي تتخفي خلف نباتات السدر وأشجار الطلح والرياح تعبث بأعشاب الحنطة فوق رؤوس التلال.
الساعة الثامنة صباحا، توقفنا على جانب الطريق لأكتشف أن هناك ثلاث سيارات دفع رباعي ترافقنا في الرحلة. وجهتنا مدينة تيشيت القديمة، تم تصنيفها تراثا إنسانيا بمبانيها التاريخية وأزقتها الحجرية ومخطوطاتها النادرة، ومسجدها العتيق المليء بالوثائق التاريخية. سكنت هذه المنطقة مجتمعات نهاية العصر الحجري، حوالي ألفي سنة قبل الميلاد، بيوتها صغيرة مبنية من الحجر الأخضر، ويسمى «الشرفا» وسكانها خليط من العرب والافارقة الذين يتحدرون من قبائل «مسانا» العريقة. مؤسس المدينة السيد الشريف المؤمن سنة 536 هجرية، انتشر عنها العلم واتسع قرونا عديدة، كانت ملتقى حيويا على طريق القوافل بين شمال الصحراء وجنوبها، تبيع الملح والتمور والزرابي، وفي فترة ازدهارها استطاع علماء تيشيت جمع أزيد من 6000 مخطوطة، يرجع تاريخها إلى القرن السادس الهجري. تيشيت هي أخت فاس وتمبكتو والقيروان في القوافل إلى مكة مرورا بالسودان.
مضارب مدينة «تجكجة»
«مقطع لحجار» ستكون أول محطة على الطريق الصحراوي، بيوتها متناثرة ومسجد صغير مأذنته قصيرة زرقاء وأطفال يلعبون، اقتربت من رجل ملثم جالس على الأرض يقلب الشاي على أكواب صغيرة، طلبت منه فنجان قهوة، صعد ببصره وناولني كوب شاي محكم الرغوة. مددت له بعض النقود، تناول الكوب من يدي وودعني.
سأتعلم لاحقا أن لا أكثر من الطلبات، بل وأن أقلل من احتياجاتي، سألني الشيخ الجالس قبل أن انصرف، أين وجهتكم؟ قلت له مدينة تيشيت. ناولني كوب شاي آخر، وهو يتشاغل بنفخ الرماد عن النار. في هذه الأثناء علا صوت الدليل، وطلب منا العودة والصعود إلى السيارات. هبطت شمس الشتاء على أشجار السدر ونباتات الحنطة المتناثرة في الرمال، سيسحرك منظر أشجار الطلح من بعيد وستعرف أنها شجرة مقدسة لدى البدو، فهي مدرارة للبن الإبل، وصمغة العلك علاجا لهم، وعطرا يزين مجالسهم عند المضارب. كثبان شامخة تعلو ثم تختفي في لمح البصر. نشاهد خيمة هنا وخيما هناك، وصبي يركل الكرة وحيدا ويحرس إبله التي ترعى في تلك الناحية. الواحدة ظهرا، ونحن على بعد خمسمئة كيلومتر من نواكشوط، تصعد السيارات جبل «تكانت» ونشاهد فوق قمته صحنا أخضر صغير غائرا في الرمال، وكلما التفت السيارات هبوطا على جرف الجبل كلما كبر الصحن، وتكاثفت أشجار النخيل من حوله وتسامقت وكأنها تخفي سرا ما. لكن خباب الإبل نحوها يفضحها ويفضح عين الماء الوحيدة عند هذه الناحية. في هذه الصحراء الموغلة والمنسية مشاهد لا يمكن أن تختزلها ذاكرة طائرة بدفع رباعي. سنتوقف للمرة الثالثة، للاستراحة عند مضارب مدينة «تجكجة» عاصمة ولاية «تكانت» اصطفت السيارات وما زالت محركاتها تئن. ترجلنا متثاقلين من فرط التعب ودلفنا إلى صالون كبير وجلسنا على زرابي فاخرة مفروشة على الأرض، تحلقنا حول أوان نحاسية مليئة بالتمر والرطب ولبن الإبل، دخل علينا عمدة المدينة وهو يرتدي دراعته المطرزة بالأصفر ويضع نظارات سوداء ربما لإخفاء فرحته بقدومنا، سويعات وحمل إلينا الطعام على صحون من الألمنيوم مغطاة بأغطية كبيرة، مظهرها يحدث بما في المخفر، خراف كاملة مشوية ومضغوطة بحبوب الثريد. انهمك الصبية في توزيعها على السجاد وازاحة أغطيتها. انشغل القوم بأكل الثريد ومضغ لحم الضأن الشهي. تنفست المدينة الواحة تلك الظهيرة، وساد شعور بطمأنينة العيش ورغده، وما إن فرغنا من الطعام، أعاد الصبية الكرة وهم يدورون علينا بكؤوس الشاي والماء البارد. الماء هنا كنز كبير وإن وجدت قطرة منه يصبح ذلك المكان مقدسا، وتشيع شهرته بين القبائل، ويسمع بخبره البدو والحضر من الصحراء إلى الصحراء. كعادته طلب منا دليل الرحلة الاستعداد للسفر وتناول ما يكفي من الماء لأن ما تبقى من الطريق غبار وكثبان، كنا قد قطعنا نصف المسافة، هنا ينتهي الطريق المعبد، وعلينا تتبع الأثر القديم لرالي داكار.
عين الماء الوحيدة
كان علينا التحرك قبل هبوط الظلام، انطلقنا ونحن نودع عين الماء الوحيدة، ونقتفي أثر الطريق، الذي كان ضاجا بالحياة من قبل، يؤمه آلاف السياح لمتابعة سباق السيارات. أصبح الآن مهجورا ومشبعا بذكريات الكنابي الصغيرة التي شيدت على امتداد الطريق. وما زالت ذكراها تحوم في المكان، بقايا أقمشة بيضاء وزرقاء عالقة على أشواك السدر وحبالها معلقة على نباتات الحنطة وقد غاصت أوتادها بعيدا في جوف الرمال. قسوة الصحراء أكثر وضوحا هنا، يخترق وحشتها كرفان للإبل يقوده صبي وحيد، وسط ذهول تام للجغرافيا.
تقع العين من داخل السيارة على خيمة وحيدة بيضاء أو زرقاء وسهول جدباء مغفرة، تحسبها منسية أو هجرها سكانها، لكنها تحمل عنوانا ولديها رقم وتقع على شارع عليه صندوق بريد، سيعودون في موسم الخريف، بصحبة زوجاتهم وأولادهم وإبلهم وأغنامهم ليبرز ماض عربي كامل الدسامة وبكل تجلياته وفصاحته وعنفوانه. كان الطريق صعبا لكنه دافئ ومؤنس طالما تقصد تيشيت، تستقبلك الحواضر هاشة باشة، الساكنة يقدمون لك الطري من الطعام ويجودون عليك بشربة ماء عزيزة، علك تحس بليونة الحياة وطراوة العيش، صحراء عامرة بحكايات أهلها وعبر حكمائها وأساطير مخلوقاتها منذ عصور مضت، ستكتشف معهم أن خيالك محدود وان صدرك ضيق وان نفسك متطلبة، وستروض بصرك على أن الحجر كائن وأن الشجرة غابة وأن الخيمة قرية، وعين الماء مدينة، وأن الجمل الذي يسير وحيدا قافلة كاملة. السابعة مساء، هبط الليل سريعا، وابتلع ظلامه الطريق، ترجل أحدهم من السيارة وهبوب الشتاء يصفر في المكان، أمر باقي السيارات باتباعه، من صوته عرفت أنه العمدة، كنا نتوقف أحيانا لتغيير إطارات إحدى السيارات أو إخراجها من الرمال لنأخذ الطريق من جديد أو يأخذنا، وعندما تكشف السيارات مصابيحها على الطريق نلمح عيون مخلوقات كثيرة خلف الظلام، لا ندري إن كانت أيائل أو ظباء أو ثعالب وكان بعضها يفر من المكان على شاكلة ضباع ومخلوقات غريبة. مخلوقات ستشعر معها بالاطمئنان وأنك لست وحدك هنا، ما يخيف من الصحراء حقيقة هي الصحراء نفسها.
بعد أن قطعنا مسافة ثلاث ساعات، قال الدليل: سنستريح عند شيخ تلك الناحية وأشار بأصبعه في الظلام وما أن أكمل جملته حتى لاح نور ضعيف عند الأفق، تسابقت السيارات مسرعة نحوه، كحشرات الضوء، وهو يتباعد عنها ويشرد خلف الكثبان. استقبلنا شيخ وقور طاعن كان ينتظرنا أمام خيمته، أجلسنا على زرابي مفروشة خلف خيمته. أضاء القمر مرحبا بنا، وأتى الصبية يهرولون من خلف الظلام محملين بأواني التمر ولبن الإبل، وما أن تناولنا رغوة الشاي حتى أتانا إناء ضخم مليء بالثريد ولحم الإبل، شكلنا دائرة حول الإناء وتحول المكان إلى مسرح كبير ضاج بالحياة وفوقنا النجوم. قبل أن نفرغ من الطعام همس الشيخ في أذن ابنه الذي لم يتجاوز عمره 6 سنوات، قام الطفل من مكانه كالملدوغ وأنطلق يركض خارج فضاء الخيمة واختفى في الظلام، سألت أحدهم كان يجلس بجانبي ماذا هناك؟ اعتقدت أن الطفل ارتكب خطأ ويواجه عقوبة، ضحك الرجل وقال: لا الصبي ذهب لتفقد مراح الإبل، ويتأكد من العدد قبل التوم، حبست أنفاسي عندما أذن مؤذن الرحلة للاستعداد للسفر، وقد تأخرت عودة الطفل، ودعنا الشيخ عند خيمته، وانطلقت السيارات تبحث عن بقية الطريق ووهاده السفر، وأنا أبحث أن أي شبح يتحرك عله يعود لطفل الظلام. وما هي إلا لحظات حتى شاهدنا ضوء سيارة تلاحقنا من بعيد، كان هو الشيخ الذي ودعناه قبل لحظات، اتجهت مسرعا نحو سيارته لمعرف أخبار الطفل، وجدته يأخذ نصف جلسة ورجله الصغيرة خارج العربة البوكس المزدحمة، كدت ان أضربه من شدة الفرح، حقيقة لحق بنا الشيخ ترافقه زوجته وأبناؤه ومعاونوه ليدلنا على أثر الطريق، ويشاركنا عرس الصحراء في تيشيت القديمة. كل شيء هنا مباح، حكايات تحمل أثر الزمن وقصص بعبر أخلاقية وهجاء. إنها كنوز نادرة مدسوسة تحت الرمال، تحرسها الشمس ويؤانسها القمر.
المدينة الحجرية
تبدو الصحراء رائعة وموحشة، كلما أوغل الليل، هواء الصباح الحار يتحول إلى نسائم باردة تبلل العظام قبل النوم، والسماء تميل عليك بصفحتها فتسيطر عليك مشاعر الوحدة والمتاهة، لا أثر لحياة هنا، كل ما تقع عليه عينك من نور أو نار في الأفق هو شهب مضيئة لنجوم احتفلت بانزلاقها نحو الأرض. احتفالية تحتاج لقلوب ثابتة ونفس مطمئنة وفطرة سليمة. ففي هذه الأمكنة يبتهج الكون سرا وتتعطل الحواس وتتجمد الدماء وتأسف النفس على نزقها القديم. مع خيوط فجر اليوم الثاني سنكون مع الموعد، أطلت علينا مدينة تيشيت التاريخية من خلف هضبة «تكانت»، تحيط بها أشجار النخيل، وتتوسطها مئذنة المسجد القصيرة، يبدو المنظر من أعلى الهضبة رائعا، بتلك الإطلالة على مباني المدينة الحجرية. رغم أزقتها المرسومة إلا أنك لا تستطيع الوصول إلى قلب المدينة التي عرف عنها انها تخفي شوارعها وأبوابها ضيقة ومؤاربة. يمر الزائر الغريب بعدة اختبارات، قبل الوصول إلى صرة المدينة والتوغل في حميمية منازلها المرصعة بالأحجار الخضراء والحمراء والجبس المزخرف والخشب المصبوغ، يتوسطها فناء ترتفع منه مئذنة المسجد ودار المخطوطات والوثائق. إذا نجحت بالوصول إلى المسجد ستجد كل أبواب المنازل مشرعة لك وفسيحة ومرحبة بك وبنزق أيضا.
تيشيت إرث إنساني، يكتشف الزائر عبر مسار مواضيعي وتاريخ متسلسل في الزمن أن عقارب الساعة توقفت في هذا المكان منذ وقت بعيد. التجوال في السوق القديمة هو فرصة أخرى للتجوال في متحف مفتوح يضم مجموعة أثرية واثنوغرافية مهمة ومعدات فلكية وزرابي عتيقة وحلي للعرائس ومجوهرات وأواني نحاسية مشغولة وقطع فخارية تعد من بين الأقدم في الحضارة الإسلامية. تنتهي الزيارة بملاذ هادئ لحضور فعاليات الدورة السابعة لمهرجان المدن القديمة، رفع العلم الموريتاني تلك الليلة، وغنت الفنانة الموريتانية غرمي منت آبه النشيد الوطني الجديد، بصوتها القوي المتبل بالحنين. وصدح المطرب الشجي لطفي بوشناق بأروع قصائد الغزل والتصوف وتماهى مع المكان بروحه وريحانه فأبكى الحضور وأبكوه. تبدو الاستراحة في مدينة تيشيت أمرا مستحقا والغوص في رمالها أمرا مشوقا وشعورا غامضا ومثيرا، آلاف النجميات يولدن هنا على صفحة الكون وتتحول الصحراء إلى مكان للاحتفال بهذه المليحة التي خبأت خفرها وجمالها عن أعين المتلصصين وفرضت على العشاق وهادة مشقة الطريق.