نوافذ (نواكشوط ) ــ العراب.. فيلم أمريكي شهير يحكي قصة عائلة كورليوني في صراعها مع العائلات الأخرى للسيطرة على “المنظمة”.
يبدأ الفيلم بحفل زفاف كريمة رئيس العائلة دون فيتو كورليوني؛ حفل باذخ ومدعوون من الطبقة الراقية، رجال أعمال، سياسيون، قضاة، محامون، ورجال عصابات ومجرمون.
قدم الجميع الهدايا والمجاملات المعبرة عن الولاء لدون كورليوني…
رغم المظاهر، كان دون فيتو كورليوني متقدما في السن معتل الصحة، يتحدى بعض شباب العائلات الأخرى سلطته…
في الطرف الآخر من العالم، على نتوء في البحر يتشبث باليابسة، كان العمر يتقدم بالشيخ عيسى. استبطأ ابنه القدر فسطا على بئر الغاز في غياب أبيه.
كان ذلك في السابع والعشرين من حزيران 1995.
بعد ذلك بسنة وأربعة أشهر، في فاتح نوفمبر سنة 1996، زف الشيخ المنقلب على أبيه إلى العالم كريمته وأهداها مائة وخمسين مليون دولار لتأثيث البيت.
تقاطرنا جميعا نحمل الهدايا ونوزع المجاملات؛ فغصت الأستوديوهات بالسياسيين، والمفكرين، والمحللين، والمشايخ..
تدافع الجميع بالمناكب للظهور دقائق معدودة في أحد البرامج، أو إحدى النشرات، بينما تجمهر الذين لم تسعهم “علبة الكبريت” أمام الشاشات ينتظرون “عالم الظهيرة”.
كانت “علبة الكبريت” مليئة بالعجائب.. كان فيها “الرأي والرأي الآخر”، ونحن الذين تعودنا على الرأي الواحد، والحزب الواحد، والزعيم الأوحد…
لذلك بدا لنا سامي حداد وهو يتأمل قلمه الأخضر والثلج يكلل هامته، شبيها بمن يحرك دمى في مسرح العرائس..
كان هادئا، مثل إبرة الميزان بين متطرف عن يمينه، وآخر عن شماله، ينتقي عباراته بعناية فائقة ويدير برنامجه بمهنية عالية. أما ضيوفه فقد مثلوا لنا وجبة دسمة متنوعة المكونات ونحن الذين أدمنا شوربة الدجاج، والخبز الحافي…
أما فيصل القاسم فقد اتخذ “الاتجاه المعاكس” لحداد.
كان ينادي على بضاعته بأعلى صوته، وينفقها بأغلظ الأيمان.. يحفز المراهنات على ديكة يحمسها..”كيف ترد؟”.
لم يكن في برنامجه رأي بل كثير من الإثارة والكلام النابي والعبارات الساقطة، ورغم ذلك كان الأكثر شعبية في بدايته.
فقد أعجبتنا النقائض والشتائم بين علية القوم الذين طالما ظهروا على شاشاتنا الباردة يلقون المواعظ ويسردون الحقائق، فوجدنا أخيرا من يأخذهم طائعين في “الاتجاه المعاكس” لما يظهرون من وقار وحكمة!!!
وبين هدوء حداد وصخب القاسم، أطل علينا أزهري يحمل لقبين يجمعان بين الأصالة والمعاصرة “الشيخ الدكتور”، يعلمنا كيف نصل الشريعة بالحياة.
بدا مختلفا عن مشايخ الشاشات الباردة، والمنابر العتيقة؛ لسانه رطب بكلمات “حلال، جائز عند الصنعاني، قال به الخوارج، وسكت عنه داود…” ولم يكن يدعو للحكام وإنما يدعو عليهم… شقق الفقه، حسب اجتهاده القائم على “التيسير” الذي يحل للمراهقين جل عاداتهم، العلني منها والسري، ويبيح للمسلمين في المهجر ربا النسيئة لشراء البيوت!!!
أما الوسطية فقد ذهبت بالشيخ الدكتور إلى رد بعض الحدود؛ مثل رجم الزاني الثيب، وقتل المرتد… وبذلك بدا لنا “مدشن الإصلاح الديني” على خطا لوثر وكالفن.
ضاق أحمد منصور سريعا بجبة الشيخ الدكتور فانفصل عنه. فتحت له “علبة الكبريت” كشكين؛ يعيد في أحدهما كتابة التاريخ بملء فراغات الذاكرة التي خلفها مرض الزهايمر لدى ضيوفه، ويبيع الوهم في الثاني “بلا حدود”، (محمود جبريل، والوثائق المسربة من مكتب صائب عريقات).
لم تتوفر، في العديد من شهوده شروط النزاهة والصدق؛ فكان بعضهم يشهد على الخصوم مثل محمد نجيب، أو يحور الوقائع مثل صالح. ولا يزال تهديد صائب عريقات “أنا أعرفك، لدي معلومات كاملة عنك”، سيفا مسلطا على رقبة أحمد منصور.
تلكم هي “الحقائق” بالجملة التي تقدمها “علبة الكبريت” خلال الأسبوع. أما الوقائع بالتقسيط فقد أوكلتها العلبة إلى نجوم يطلون علينا ضمن مؤثرات سمعية بصرية مبهرة، وفي أوقات الاسترخاء حين تكون ملكة النقد والتعقل في إجازة، في “عالم الظهيرة”، وفي “العالم هذا المساء”.
كانوا شبيهين بناد لكرة القدم؛ أسعارهم باهظة، جنسياتهم مختلفة وولاؤهم واحد، ينتمون إلى الدرجة الأولى ويلعبون في دوري الدرجة الثالثة ضد الإعلام الرسمي المتهالك.
ومثل كل الفرق، كان هناك نجوم لهم جمهورهم الذي ينتظر إطلالتهم. تمتع جمال ريان بكل مؤهلات رأس الحربة؛ فلسطيني وسيم، ينهي حواراته مع الذين يحتلون أرضه، ويقتلون أهله، ب”شكرا جزيلا سيد…”، ويسير في الاحتراف على خطا روجي ميلا.
أما ليلى الشايب ومحمد كريشان فقد مثلا الصورة النمطية للعائلة…؛ تحتل ليلى في ملعب الجزيرة وسط الدفاع عن القيم العلمانية العتيقة، بينما يلعب محمد كريشان الأدوار الثانوية في وسط الملعب.
أما خديجة بن قنة فقد بدأت مع انطلاق الجزيرة لاعبا تحت الاختبار يحتار المدرب في توظيفه الأمثل، حتى حجبت إحدى الشاشات الباردة محجبة عن الظهور، فأصبحت بن قنة، وقد غطت شعرها، “جناحا طائرا” بالفريق، لكنها اليوم تحمل حقائبه المليئة بالإساءة في تويتر وفيس بوك. وبقي الكثير من اللاعبين على دكة الاحتياط لفترات تطول وتقصر، يظهرون ثواني معدودة من الوقت بدل الضائع مثل بيبه ولد مهادي، وكلف آخرون بجمع الكرات خارج الملعب في جنوب إفريقيا…
أما بنك اليمين، فوزي بشري، المشهور بضرباته المباشرة تحت الحزام تعريضا بخصوم قطر، وتمريراته الطويلة خلف خطوط المدافعين عن أوطانهم، تحريضا على الفتن، فقد تراجع مستواه لطول جلوسه على دكة الاحتياط، فلم يستطع ضبط حركاته في مباراة “التفحيط”، فأصيب بتمزق لغوي أخرجه من الملعب على نقالة وسط صيحات استهجان الجمهور. فاعتذر، على صفحته، عن سوء أدائه بدخوله المباراة دون إحماء…
خسر الفريق بعض نجومه حين تغيرت خطة اللعب مع بداية الموسم الجديد 2010/2011.
لم تعد القناة تسمح بالرأي الآخر فاختفى سامي حداد. وقرر مالك الفريق الحقيقي، الإخوان المسلمون، طرد النصراني سامي كليب، ثم أتبعوه بالشيعي غسان بن جدو، فهربت منهم “الشبيحة” لونا الشبل…
وخشي فيصل القاسم على موقعه في الفريق فزاد الخشونة وأدمن المنشطات.
دام شهر العسل بين كريمة حمد وجمهورها الواسع عقدا من الزمن فأنجبت ذرية تحمل أجندتها إلى آفاق جديدة، فتضخمت “علبة الكبريت” لتصبح “صندوق موزة” يقذف شروره في ربيع أنتج في بيوت الزجاج…
أطلقت النار على دون فيتو كورليوني لأنه رفض حماية تجارة المخدرات، متعللا بوازع أخلاقي!!!
وربما عرض على الشيخ عيسى دور مشبوه في المنطقة فاعتذر عنه فانتهى دوره مثلما انتهى دور “مارلون براندو”، ليستلم آلباتشينو دور البطولة، فيعلن مايكل كورليوني الحرب على العائلات الأخرى في “المنظمة”.
وعلى الطرف الآخر يستثمر الشيخ حمد في تجارة الإرهاب الرائجة ليعلن الحرب على الدول الأخرى في المنطقة.
بين مايكل كورليوني والشيخ حمد أوجه تشابه كثيرة؛ فقد ورثا السلطة ليؤججا حروبا طاحنة لا تتقيد بقيم ولا أخلاق، دافعها جمع المال؛ فلم تسع قطر يوما لنشر الديمقراطية وحرية الرأي كما يزعم “صندوق موزة” وإنما حركتها أنابيب الغاز في سوريا، وآبار النفط في ليبيا.
وإذا كان الشيخ عيسى لا يشبه كثيرا دون فيتو، فإن الشيخ حمد بن جاسم رئيس وزراء قطر السابق يكاد يكون التجسيد الفعلي لشخصية المحامي توم هيغن ابن دون فيتو بالتبني.
فقد كان هيغن شخصية هادئة أنيقة تشرف على شؤون العائلة “القانونية”، عمل مستشارا “لوالده”، ونهض بنفس الدور إلى جانب “أخيه” مايكل. وقد كان حمد بن جاسم الوجه الدبلوماسي للعائلة، ومدبر الدسائس، عمل إلى جانب الشيخ عيسى وسطع نجمه مع ابنه الشيخ حمد.
أما التشابه اللافت حقا فهو بين نهايات عائلة كورليوني، وعائلة آل ثاني…
انتهى مايكل كورليوني عجوزا ينخره المرض وسط عائلة مفككة، فمات وحيدا على كرسي يدور حول جثته جرو صغير. واليوم يعاني الشيخ حمد آلام الشيخوخة على كرسي متحرك في شبه جزيرة محاصرة وسط عالم عربي ساهم بقسط وافر في تمزيق أوصاله…
فشلت كوني كورليوني ابنة دون فيتو، في حياتها الزوجية وقد بدأ الفيلم بحفل زفافها، كما فشلت الجزيرة في “رسالتها الإعلامية” وقد دشن حمد عهده بإطلاقها. فلم يعد يتابعها سوى الجمهور الضيق للذين يديرونها من وراء ستار: جماعة الإخوان المسلمين…
انهار الفريق الذي صرفت عليه مئات الملايين، مثلما انهار فريق باريس سينجرمان (تملكه قطر) في مباراة العودة رغم فوزه الكاسح في مباراة الذهاب.
لقد بدأ العرب (لا ريمونتادا) في تونس، حيث سقطت النهضة، وفي مصر حين أزيح الإخوان، وفي ليبيا يسيطر الجيش الوطني على ثلاثة أرباع البلد، وتتنادى القبائل والمدن إلى المصالحة، وتطرد مليشيات قطر التكفيرية من الجنوب والغرب…
وفي عاصمة الأمويين يمشي الأسد الهوينى، بلا حراسات، كأنه “في جفن الردى وهو نائم”، وتهلل الدوحة لمعونات غذائية في شكل بقايا شحنة طماطم وحمضيات لا تستجيب لشروط السوق الأوربية، وتشكو “الحصار” والحملة الإعلامية ضدها…
وتنقلب الموضوعية والحياد في الجزيرة إلى “تفطيح إعلامي”؛ فتقطع خطاب الأمير، وتنشر كاريكاتورا مسيئا ثم تضطر إلى حذفه والاعتذار عنه، ويتجاهلها الشيخ حمد بن جاسم لاجئا إلى القنوات الأمريكية… وقد نسمع قريبا أن أمير قطر فقد شرعيته، وعليه أن يرحل… سبحان مغير الأحوال..
محمد إسحاق الكنتي