من الأشياء التي انغرستْ في عقلي، مع بواكير التمييز، أن في موريتانيا رجلا عسكريا شجاعا قاتل ببسالة في حربنا في الصحراء يدعى فِيَّاهْ ولد المعيوف، وكانت تلك الحرب في بيتنا، لأن أول صورة في البُوم ذاكرتي بإطلاق هي حمرة عيون والدتي بكاء على شقيقها الأسير عند العدو..
ثم شاء الله أن يأتي هذا البطل الوطني إلى بتلميت بأبنائه بحثا عن وسط علمي مناسب، فقاسمني محمد وكَبِيرْ مقاعد الدراسة في الابتدائية، وقاسمتهم منزلهم في الجانب الغربي، واشتركنا براءة الطفولة ونزق المراهقة، ومناشط الشباب..
البطل فياهْ رحمة الله عليه في عيني هو ذلك الرجل الجلد الصبور، المقاتل بالفطرة، الذي لا تقبل نفسه تحت أي ظرف إهانة، ولا ضيما، ولا يفارقه سلاحه مطلقا..
في صفحة فياهْ من تاريخنا الوطني المجيد أنه ضابط جمهوري، شارك في تأسيس القوات المسلحة الوطنية، وخاصة سلك الدرك الوطني، وقاتل ببسالة دفاعا عن التراب الوطني، وبقي وفيا للقيم العسكرية الجمهورية، وفيها أيضا من أدب الحرب، قول القائل فيه:
لَيْلِتْ خَبْطَتْ تُورِينْ -- صَلَّ فِيهَ فُيَّاهْ
أُلَا صَلَّ بَعدْ إِلَينْ -- مَا خَلَّ حَدْ أُرَاهْ
والصلاة في مواقع القتال، واستراحات المعارك، شجاعة نادرة، وتعلق كبير بعماد الدين، فكثيرا ما شغلت الحرب وتدبيرها أبطال المسلمين عن الصلاة حتى يخرج وقتها..
كأني به اليوم، وقد رحل على فراشه، بعد أن طلب الموت في مَظَانه يتمثل قول خالد بن الوليد رضي الله عنه: "لا نامت أعين الجبناء"، وقول قطري بن الفجاءة:
لا يركنن أحد إلى الإحجام -- يوم الوغى متخوفاً لحمام
فلقد أراني للرماح دريئة -- من عن يميني مرة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي -- أكناف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب -- جذع البصيرة قارح الإقدام//..
اللهم إنه عبدك ابن عبدك ابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك وَرَسُولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا، فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله..
أعزي فيه الوطن الموريتاني، وقواته المسلحة، وأبناءه وأهل بيته، وعهدي بهم والموت لا يرهبهم، حتى ولو طلعَ عليهم الفراش، فهم كما قال القائل:
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم -- مع البكاة على من مات يبكونا
رحم الله السلف، وبارك في الخلف..