مسؤول سام يشبه الرئيس عزيز بالعنصري الذي انتخب رئيسا لأمريكا

جمعة, 11/11/2016 - 06:03

عودة الخطاب الوطني...

أثار انتخاب رجل الأعمال دونالد ترامب رئيسا لأمريكا الكثير من الدهشة وبعض القلق، وشيئا من الخوف في العديد من أوساط النخبة السياسية والإعلامية في العالم، التي سخرت بالرجل عند إعلانه الترشح، ثم ناصبته العداء أثناء حملته الانتخابية. لم يتوقع أحد تقريبا، أن يشكل الرجل منافسا حقيقيا لمدللة المنظومة السياسية والإعلامية الأمريكية، فوقع الخبراء والمحللون، ومراكز استطلاع الآراء في فخ الرتابة وأطر التفكير السائدة حول إدارة الشأن العام والخطاب السياسي الذي كرس، منذ انتهاء الحرب الباردة بانهيار المنظومة الإشتراكية، مصالح فئة اجتماعية واحدة هي الطبقة البورجوازية على حساب بقية الطبقات الاجتماعية المتوسطة والدنيا.

فقد عززت الرأسمالية المتوحشة تحالفها مع الطبقة السياسية الحاكمة والنخبة الثقافية الموجهة للرأي العام. فتم فرض تحرير الاقتصاد بشكل كامل ليتحرر رأس المال من الالتزامات الاجتماعية التي قبلها مرغما أثناء صراعه مع المنظومة الاشتراكية، فازداد تراكمه في يد أقلية مستغلة بلا ضمير. وعملت النخبة السياسية المتحالفة معها على إضعاف الدولة الوطنية لينفتح المجال واسعا أمام الشركات العابرة للبلدان لتعزيز سيطرتها ونهبها للموارد الطبيعية بأبخس الأثمان؛ قارن: أسعار النفط، والحديد، وفتح الأسواق أمام المزيد من استهلاك بضائعها الكمالية. حظيت عملية السطو هذه بغطاء فكري أطلق شعار العولمة، ونظر لنهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية على الاشتراكية وبذلك انتهى الصراع الذي قام عليه التنظير الاشتراكي حول امتلاك الثروة وإنتاجها.

ولم يكتف منظرو الرأسمالية المتوحشة بخدمات فوكوياما، وإنما لجؤوا إلى هنتغتون ليحدد لهم ملامح العدو الجديد، فأخذ نقيض الأطروحة الماركسية. فقد كان ماركس يؤكد مركزية الصراع حول ملكية وسائل الإنتاج ليمثل الاقتصاد، في زعمه، البنية التحتية للمجتمعات، أما الثقافة؛ الهوية والدين، فلا تمثل سوى بنية فوقية تتشكل وفقا لبنيتها التحتية. قدم فوكوياما الحل للعقدة الماركسية بإعلانه نهاية التاريخ الإقتصادي للبشرية بانتصار الرأسمالية، ليعلن هنتغتون بداية تاريخها الثقافي والديني بصراع الحضارات، لتتحد الحضارة اليهودية المسيحية، في أوربا وشمال أمريكا، في حرب مقدسة ضد الحضارات الأخرى خاصة تلك التي تواجهها على "التخوم الملتهبة"؛ الحضارة العربية الإسلامية...

وهكذا، أصبحت قضايا الهوية والدين، التي همشت فكريا وسياسيا أثناء الحرب الباردة لفائدة الاقتصاد، محور الصراع الجديد. ولم يعد مستقبل البشرية، ورفاهها شاغل المنظرين والمفكرين، وإنما غدا ماضيها الحضاري، وتصورها الديني ملهم منظري العولمة ومروجيها. ولما كان لكل منظومة فكرية أطرها الناظمة، وأدواتها المنهجية والمصطلحية، فقد اختفت، في المنظومة الفكرية الجديدة، مصطلحات الصراع الطبقي، والعدالة الاجتماعية، لتحل محلها مصطلحات الصراع بين الخير والشر، والتطرف العنيف، والظلامية... ولم يعد "السلام والتقدم" هدفا منشودا، وإنما دخل العالم في حرب شاملة ضد "طواحين الإرهاب"... فاتسع مجال ديكتاتورية فعلية تحت غطاء ديمقراطية زائفة... أفلس "رأس المال" فانهارت ديكتاتورية البروليتاريا، تاركة "ثروة الأمم" نهبا للرأسمالية المتوحشة...

كان العالم، منقسما إلى منظومتين، يتقبل التنافس، ويسمح بالاختلاف. أما اليوم في ظل سيادة الرأسمالية المتوحشة، فلم يعد مسموحا بالاختلاف، ولا تسامح مع الخصوصية، في ظل سيادة القيم الكونية؛ قيم الحضارة اليهودية المسيحية... فالآخر، إذا لم يندمج في طريقة عيشنا، يمثل تهديدا "لقيمنا الإنسانية".

كان جورج بوش الابن الوجه السياسي الفج للمنظومة الجديدة فخاض حروبها المقدسة، ورسخ مفاهيمها التبسيطية عن الخير والشر، والدول المارقة، وتلك الداعمة للإرهاب فجاس خلال ديار العالم العربي والإسلامي وأحرق الحرث والنسل... ثم خلفه كلينتون فنثر الملح على الجروح التي خلفها سلفه، وجاء أوباما، في صورة حمل كاذب... قربته إلينا بشرته الداكنة، وسحرنا ببلاغة خطبه الطويلة، لنكتشف بعد ثماني سنوات من انتظار غودو، أن "البطة العرجاء" عاجزة عن حماية أبناء جلدتها من قناصي الشرطة البيض الذين يصطادون الشباب الأسود في شوارع المدن الأمريكية مثل الأرانب...

ثم انتخب ترامب... ليعود الخطاب الوطني إلى الصدارة في مواجهة خطاب عولمة الرأسمالية المتوحشة، فضجت النخب المسيطرة في العالم تحت وقع زلزال خيارات المواطن البسيط الذي طحنته الرأسمالية المتوحشة. فقد اختار الأمريكيون البسطاء رجلا يعلن صراحة عداءه للإعلام، واحتقاره للطبقة السياسية الفاسدة مستعيدا خطابا وطنيا يجعل مصالح الأمريكي البسيط فوق مصالح الطبقة البرجوازية والدائرين في فلكها من سياسيين، وإعلاميين، وأصحاب فكر ينظر لانتصارها، وثقافة تروج "قيمها"...

كان الخطاب الوطني يوصم بالفاشية حين تتبناه نخبة عسكرية تسيطر على الحكم عبر ثورة في ثوب انقلاب عسكري يطيح بطبقة سياسية فاسدة تحالفت مع الرأسمالية الدولية على حساب مصالح وطنها القومية.. فتُحارب "الطغمة العسكرية" الوطنية باسم الديمقراطية، والحريات العامة، وحقوق الإنسان، لإفشال المشروع المجتمعي الذي تحاول النخبة الوطنية بناءه لصالح كل فئات المجتمع، وخاصة الأكثر هشاشة فيها. كان ذلك ضمن أجواء الحرب الباردة، وانقسام العالم إلى معسكرين. وحين انتصرت الرأسمالية، ولم يعد العالم الديمقراطي يقبل الثورات والانقلابات، ظهر زعماء سياسيون وطنيون، ينخرطون في اللعبة الديمقراطية، وينافسون خطاب الرأسمالية المتوحشة بخطاب وطني يعبر عن هموم المواطنين جميعا.. فوسم خطابهم الوطني ب"الشعبوي"، ازدراء... من هنا السخرية بترامب وازدراء خطابه السياسي الذي يناضل ضد مكتسبات الرأسمالية المتوحشة على حساب المواطن الأمريكي البسيط. فحين يعارض ترامب الهجرة غير الشرعية يصوره خصومه عنصريا مقيتا، والواقع أن المستفيد من الهجرة غير الشرعية هي كبريات الشركات الرأسمالية التي تستفيد من عمالة رخيصة بلا حقوق ناشرة البطالة والبؤس في صفوف الأمريكيين الذين لا يجدون وظائف. وحين يندد ترامب بحرية التجارة، والإتفاقات التجارية الدولية، وهجرة الصناعات الثقيلة من أمريكا إلى بلدان الجنوب، تهربا من الضرائب، والكلفة الاجتماعية، فإنه إنما يفعل ذلك دفاعا عن مصالح الأمريكيين البسطاء ضد أقلية مستغلة بنت شبكة علاقات ومصالح دولية تعزز سيطرتها...

ومن المفهوم أن تثور الطبقة السياسية العالمية في وجه ترامب وخطابه الشعبوي لأنه يعري تحالفها مع الرأسمالية ضد المصالح الوطنية لشعوبها وشعوب العالم الثالث. فحين ترفع تلك الطبقة شعار الديمقراطية والإقتصاد الليبرالي، في العالم إنما تبتز الأنظمة الوطنية لتظل بلدانها نهبا للشركات الرأسمالية، وتتفتت مجتماعتها في كيانات حزبية هزيلة يتاجر بها ساسة أنتجتهم في الغالب هيئاتها المالية الدولية...

لقد حدث شيء قريب من هذا، عندنا في موريتانيا. فحين انقلبت نخبة وطنية عسكرية على السلطة القائمة على التحالف بين التجار والطبقة السياسية الفاسدة، رفع قميص الديمقراطية الملوث في وجهها فسلمت السلطة للمدنيين. لكن الضباط الوطنيين حين لاحظوا التفاف الطبقة السياسية الفاسدة التي أزاحوها، حول سيدي..محمد، أعادوا الكرة لينخرطوا هذه المرة في اللعبة الديمقراطية عارضين على الموريتانيين خطابا وطنيا بادرت الطبقة السياسية إلى وصمه بالشعبوية. بادر السياسيون المحترفون بالتحضير للإنتخابات متأكدين، مثل كلينتون، من فوزهم على القادم الجديد إلى الحقل السياسي مجردا من أدواته. ولما فاز عليهم في الشوط الأول، كما فاز ترامب على المؤسسة السياسية الأمريكية، لم يجدوا تفسيرا سوى أن أحد الحروف امتلك يوم الاقتراع، خصائص تلغي قانون العطالة!!!

إن عودة الخطاب الوطني إلى الواجهة وفي البلدان الغربية التي عممت خطاب العولمة، وحاربت الدولة الوطنية، يظهر بجلاء أن الجماهير تلتف أخيرا حول الزعماء الوطنيين، وإن نعتهم أعداء الشعوب بالدكتاتورية، ووصم الديماغوجيون خطابهم الوطني بالشعبوية...