بعد خمس عشر ة سنة، من يوميات جحيم اغوانتانامو اللعين، خرجَ يوم 17/10/2016م السجينُ الموريتاني الاستثنائي، المهندس: محمدو الصلاحي، مودِّعا رِحْلَةَ عذابٍ روحي وبدني، عاشها، في مُسْتَقَرِّ هذا السجْن، وفِي توابِعه، التي مرَّ بها قبْل الوُصول إليْه، وللقرَّاء، كل القراء، أنْ يتخيَّلوا كيف مرَّتْ هذه السنينُ الطويلةُ بطيئةً رتيبة، ساحقةً ماحِقة على رُوح شاب، انتزَعَ من أحْضانِ أهْله فجْأة، ومن بحْبُوحة أحْلامٍ النَّجاحِ التي تُرَاوِدُ المهندسَ العبقريَّ الخِرِّيجَ لتوِّه من أرْقي مَدراس ألمانيا، ليجدَ نفْسه في جَحيم اغوانتانامو... حيْث لا أمَلَ في البراءة، ولا في الخُروج من بَراثين العَذاب الأليم....مهْما جمَحَ بنا الخيالُ في رسْم يوميات ذلك السجْن، المَنْبُوذ خارجَ العَالَم، لن نستطيعَ أنْ نُجَارِي، سرْدَ هذا الرجل لمِذَكِّراته، التي سمَّاها: "يوميات اغوانتانامو" التي أبتْ لصاحِبها عبْقريتُه الاستثنائية، إلْا أنْ يُضيفَ للعَربية، لغةِ قوْمِه، والفرنسيةِ لغَةِ تكوينه الأول، والألمَانية لغَةِ تخرُّجِه، اللغةَ الإنجليزية لغَةَ مُعْتَقَلِه الكريهِ، لدَرَجَةٍ اسْتطاعَ بها ترْجَمَة مُعاناتِه، وكوامنِ شُعُوره، وتفاصيل عذاباته...باعتباره السجين الوحيد الذي ملك من الطاقاتِ الروحية، ما مَكَّنَه من كتابات يوْمياته في هذا السجْن الأثيم، الأليم، عبْر466صفْحة، ثم خضعَ النصُّ للرقابة، داخلَ المُعْتَقَلِ، حتى أفْرِجَ عنْه(أي النص) سنة 2013م، بعْدَ حذْفِ بعْضِ المَقاطعِ، وعندما نُشِرَتْ هذه المذكراتُ، التي أعلن فيها- بسماحته اللامحدودة- استعدادَه لشرْب الشاي مع جَلاديه، زعزعتْ أبْوابُ هذا السجْن، وقرَّبَت الفرَجَ البعيدَ، حيث تكلَّمَتْ مُعَانَاتُه القَاسِية بأكثرَ من عشْرينَ لُغَةً عالميةً، ترجَمَتْ إليْها يوْمياتُه، فجَلبَتْ له التعاطُفَ والمُناصرَةَ، من داخلِ أمريكا وخارجها، حتى انتزعتْ له الاعْترافَ ببراءَتِه الطبيعية، وحَمَلَتْه هذه الحُروفُ العجيبة، على أجْنِحَتِها، بعيدًا إلى أجْوَاءِ الحُرَّيةِ، التي كانت مُسْتحيلَة، تاركًا وراءه فلْمًا هليوديا، يُنْجِزُه عنْها المُنْتِجَان السينمَائيان الدوْليان: "لويد ليفين، ومايكل برونر، لتتحَوَّلَ إلى ادراما تراجيدية في القريب المنظور....
وغير بعيدٍ من إيمانِ هذا المُهنْدِس السجينِ، بالقوَّةِ الناعمةِ للحرْفِ، وبسُلْطَتِة القَاهِرة، كان يُمازحُ جلَّاديه بأنَّه عليْهمْ أنْ يُوَقِّرُوه، خشْية لِسانِه، لأنَّه من "بلاد المليون شاعر"، ولهذا ما كاد يعود إلى وطنه، حتى غمَرَهُ شعراءُ هذا البلد، بفيوض القصيد، الدافئة، ابتهاجا بحريته، لتتطهر روحه الطيبة الصبورة من وشوم العاذابات الطويلة، ولتعمَّرَ جنباتُها بمَشاعِرِ المَحَبَّةِ الصادقةِ الصافيةِ، حتَّى لتنْسى فراغاتِ الفقْد، و تطفِئ لهيبَ الشوْق والحَنين......إلى الوصال المستحيل.
وهكذا تحوَّلَ بيتُ السجين، القادم من وراء القضبان، من وراء الغيوم، من وراء التخوم، إلى بيت للقصيد، إلى "عكاظ "، ما كاد يتغيَّبُ عنْها، أحَدُ من شعَراءِ البَلد، وكتَّابِه ومشاهيره، وقد كنت من السبَّاقين، إلى كتابة هذا النص فور انطلاق الرجل:
"خارج القفص":
يَحُـــــــــومُ الطيْرُ.. منْ فَنَنٍ
إلَـــــــى فَنَنٍ.. إلَـــــــى فَنَنِ!
فإنْ يُحْـــــــبَسْ.. يَمُتْ كَمَـدًا
فكيْفَ الحُــــــــــرُّ.. إنْ يُهَنِ؟!
حيَـــــاةٌ.. دُونَ حُـــــــــرِّيَـةٍ
مَمَــــاتُ الــرُّوحِ... والْبَـدَنِ!
وأصْعَبُ.. مَـا يَكُــونُ.. أذًى
سَجِــــينُ الخَوْفِ... وَالظُّنَنِ!
فَقُلْ لِـي.. يَا ابْنَ صــلَّاحِي
وكيْفَ.. تَقُــــولُ؟ وَاحَزَنِي!
وأنْتَ. تَعُـــــــودُ.. مِنْ سَقَرٍ
تَجُـرُّ مَـــواجِعَ الــــزَّمَــــنِ!
تُفَــتِّــشُ.. عـــنْ يَدَيْ... أمٍّ
و يــــــا للأمِّ.. لمْ تَــــــــبِنِ!
تُفَتِّشُ.. عنْ حِـــــمَى وَطَنٍ
أضَاعَكَ.. يَا الفَتَى الحَسَنِي!
تَغَيَّرَت الوُجُـــــوهُ.. هُـــنَـا
لِطُـــولِ السِّجْنِ.. والمِحَــنِ!
وأَوْجُــهُ ظُّــلْمِكَ.. القَـــاسِي
بمــلْء السِّـــــــرِّ.. والْعَــلَنِ
فَمِنْ وَطَـنٍ.. إلَــــى سِجْــنٍ
ومِنْ سِجْـنٍ.. إلَـــى وَطَــنِ!
أدي ولد آدب