قرأت مقالا شيقا للأستاذ المحامي والباحث محمد ولد امين تحت عنوان "نازلة ولد مخيطير" وقد استوقفني عبارات محددة في خضم المقال الطويل آثرت إثراء للموضوع أن أدلي بملاحظات سريعة حولها ..ويتعلق الأمر بالتشكيك في قصة مقتل رجال بني قريظة وسبي ذراريهم ونسائهم.
أستاذي الفاضل
فعلا نحتاج إلى غربلة تاريخنا وإلى النظر مليا في بعض الروايات التي لا يسعفها النص القطعي أو الظني ولاتعضدها الروايات الموثقة، ولا يقبلها منطق الأشياء والوقائع ..وفي السيرة النبوية تساهل العلماء-سهل الله عليهم- في تقبل الروايات ولم يتعاملوا معها كما تعاملوا مع تلقي الحديث، فدخلت بسبب ذلك أمور وروايات لا تثبت عند التحقق.. وحري بالمتخصصين والباحثين أن يغربلوا تاريخنا غربلة تزيح عنه كثيرا من الشوائب التي لا تصح ولا يعول عليها.
أستاذي الكريم
ان العقل ليس مطالبا بأن يتفهم الروايات التاريخية إن ثبتت.. لأن الأحداث لا تتبدل ، والواقعات رفعها محال.. نعم للعقل مجال في مراجعة الروايات وتنقيتها وتصحيحها. لكن ذلك يبقى مشروطا بضوابط التصحيح والتضعيف المقررة في مظانها وفي سياقاتها المناسبة وما ثبت وفق الضوابط العلمية يبقى البحث عن تضعيفه ومحاولة رده عبث غير علمي لا طائل من ورائه وكم من حوادث تاريخية لو أعملنا فيها العقل المعاصر بغض النظر عن السياقات التي حفتها لأنكرناها. لكن ذلك لا يعني أبدا تسليم كل "مروياتنا" بقدر ما يعني تسليم ما ثبت بالطرق الصحيحة وفي مقدمتها عندنا –معاشر المسلمين- ما ورد في الوحيين كتاب الله وما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما تناقله الثقات عن الثقات دون اعتراض وبلغ مبلغ التواتر..
إن الرد على الشبهات التي تثار بين الحين والآخر ضد بعض الأحكام الإسلامية أو بعض الأحداث التاريخية بالتجاهل المطلق أو النفي المطلق أمر غير علمي وغير منطقي وإلا سينسف الآخر كل الثوابت ونحن في خرس مبين وسبات عميق.. أو سننف نحن كل الثوابت والمرويات الصحيحة كلما طرق طارق المشككين أو أذن مؤذن المعترضين..
نعم يجب الاعتراف بأن التراث يحتاج تنقيحا وأن كثيرا من تلكم الأخبار والآثار لا تبلغ مبلغ اليقين وفيها مالا يصمد عند أول تدقيق علمي والمعنيون بالأمر والمتخصصون مطالبون بتنقيه، ومن ذلك بعض الأخبار المبثوثة في ثنايا بعض كتب السيرة النبوية ..لكن حينما يتعلق الأمر بأمور ثابتة بالوحيين يصبح الحديث عن النقض مؤسسا على شفا جرف هار من الناحية العلمية والعقدية .
وولوجا للموضوع أقول إن الإمامين الطبري وابن اسحاق رحمها الله ليسا وحدهما من رويا قصة غزوة بني قريظة وما وقع فيها وإليكم بعض النصوص الصريحة التي تؤكد الموضوع
قال تعالى " وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا "
هذه الآية من سورة الاحزاب جلية في الموضوع، وحيث أنه لم تحدث معركة في الأحزاب وبني قريظة فالمقتولون من أهل الكتاب هنا هم "المقاتلة" الذين حكم عليهم سعد بن معاذ رضي الله عنه .. وهذا النص صريح فإن الجلاء لم يقع فكانوا بين مقتول وهم الرجال ومأسور وهم الأطفال والنساء. وقد تحدث القرءان عن جلاء بني النضير بخلاف ما حصل مع بني قريظة
إن وصف الموضوع ب"هولوكوست حجازي لا ينبغي إذ يستشف من الوصف النظر بسلبية إلى الفعل.. لكن يشفع للكاتب أنه لا يعترف بالحادثة وإلا يصبح الاعتراض اعتراضا على "حكم الله" والمعروف أن أحكام الله مثل قضائه لا وجه فيها للاعتراض ولا تعلل
فمن يستطيع أن يستخدم عقله ويستدر عاطفته ليتعرض على حادث سير أودى بحياة أسرة بكاملها بما فيها أطفال لم يبلغ الحلم بعد ولم يذوقوا كثيرا طعم الحياة وبموتهم تنتهي من الوجود سلالة معينة..في حين ينجو مسن مقعد من حادث خطير وحجته في الاعتراض أن ذلك مناف لصفة "الرحمان" هذا قضاء الله وقدره وذاك في بني قريظة حكم الله وقضاؤه.." ولكن الله يسلط رسله على من يشاء من عباده"..
وكيف يمكن الحديث عن إجلائهم وهذه الأحاديث الصريحة الصحيحة شاهدة على القتل :
فقد حكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجريج حينها سعد بن معاذ رضي الله عنه بعد أن نزلوا على حكمه ورضوا به دون غيره من الصحابة رضوان الله عليهم و هم من اختار القاضي الذي سيتولى الحكم عليهم، وتلك قمة العدالة ولم يكن ذلك خبط عشواء فقد كان رضي الله "سيد" الأوس الذين طلبوا أن يحكموا في بني قريظة باعتبارهم "مواليهم" –أي حلفائهم فحكم فيهم الحكم الذي اتفق على روايته الشيخان "أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم "وعقب النبي صلى الله عليه وسلم بعد النطق بالحكم تأييدا وتثبيتا بالقول "قضيت بحكم الملك –في بعض الروايات. وما دام الأمر كذلك فهو حكم عدل ولا معقب لحكم الله ولا راد له ولا يستطيع أي محام أن يطعن فيه أو يطلب الاستئناف .وكيف يتصور أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت-لاما رواه "الطبريون" أن هذا هو حكم الله من فوق سبع أرقعة –في بعض الروايات ثم نتصور أنه لم ينفذ.. وأن الحكم استؤنف في الأرض وتم تحويله إلى الجلاء...؟؟
ويؤكد حصول عملية القتل حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح وفيه."فحاربت قريظة وقتل رجالهم وقسم نساءهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين"
وكذلك ما رواه أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها أنه لم تقتل من النساء إلا واحدة وكان ذلك قصاصا لكونها وضعت الرحى على خلاد بن سويد فقتله
و"المقاتلة " في قول سعد رضي الله عنه لا تعني من قاتلوا المسلمين في الأحزاب أو في بني قريظة لأنه في الأولى لم يحدث قتال وإنما هزم الله الأحزاب في القصة المعروفة والمنصوصة في القرءان –لاعند الطبريين- وكفى الله المؤمنين القتال وبنوقريظة لم يواجهوا وإنما استسلموا وأذعنوا لحكم سعد رضي الله عنه.. وفي حديث بن عمر "فقتل رجالهم" وهي واضحة في قتل جميع البالغين لا من قادوا الحرب لأن الجميع رضي ونقض العهد وآزر وأيد، وكان حربا على المسلمين في وقت مواجهة العدو .فكانت بكل المقاييس خيانة عظمى .. وعلى أولي النهى والعقول أن يعرفوا مواقفها ومجالاتها .. وعندما يسلط الله رسله على من يشاء من عباده أن يقولوا سمعنا واطعنا.. فإذا أخبر المعصوم ان هذا هو حكم الله علينا أن نصطحب قوله تعالى "فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما..وهنا نتحدث عما ورد بالوحيين لا ما رواه الإخباريون الذين يخلطون بين السليم والسقيم
ولم يرد في أي نص من النصوص ولم يذكر أي"مؤرخ" معتمد –لاطبري ولا غيره- أن سعدا حكم فيهم بشرعة اليهود بل باجتهاده الذي وافق حكم الله ..
الغريب أن يقول باحث ما إن تناقض الروايات في عدد مجموعة غير قليلة مقتض لرفض الرواية ..فكم من روايات صحيحة اختلف في تحديد العدد فيها دون أن يطعن ذلك في صدقها، وحتى الروايات المعتمدة في عدد مقاتلي بني قريظة كما رواها ابن اسحاق وغيره كان في حدود المفهوم في زمن لم يكن فيه الإحصاء دقيقا وقد قال بن هشام منهم " من قال إن العدد ستمئة أو سبعمئة "والمكثر منهم من يقول كانوا بين الثمانمئة والتسعمئة" وهو رقم منطقي جدا إذا ما اعتبرنا انهم كانوا أقلية في المدينة ،وإذا كان عدد المهاجمين للمدينة في حدود عشرة آلاف مقاتل وهو رقم ضخم جدا مقابل المسلمين فما ظنكم لو كان القرظيون من الداخل في حدود ثلاثة آلاف مقاتل. لذلك فالاختلاف في العدد ظل في حدود المعقول وليس مبررا لنفي الحدث ونسفه من الأساس.
حديث الأستاذ عن نفي بعض كتب السيرة للقصة من أصلها يحتاج برهانا قاطعا لأنه في الروايات التاريخية لا تقبل الدعاوى غير المبنية على المصادر..ولذلك كان من المفترض عندما قال إن هناك "من يرفض وجود القصة من أصلها وفرعها ويتحدث عن عملية إجلاء لم يقتل فيها أحد،"كان عليه أن يذكر مصدرا واحدا من المصادر القديمة يؤكد هذه الرواية لكن المفاجأة أن الأستاذ قفز قفزة من الناحية العليمة قلما تسلم منها فقرات ظهر البحث العلمي حينما قال"من أهل زماننا" ومتى كان أهل "زماننا" حجة في الروايات التاريخية؟ ..نعم.. يستطيع أهل زماننا ان يرجحوا بالأدوات العلمية رواية على أخرى لكن لا يمكن أن يكونوا مصدرا مقابلا لمصادر أخرى بعضها "وحي" لا ينطق عن الهوى..في هذه أخطأت الحفرة استاذي الكريم.
شخصيا لا أفهم أن يصرح القرءان بأنهم قتلوا وأسروا وتتحدث الأحاديث الصحيحة عن ذلك ثم يأتي باحث متأخر ليؤكد أنهم أجلوا إلى مناطق أخرى.. سأتشبث بالنص القطعي الدلالة والثبوت حتى ألقى الله بذلك.. وأين ما وقع لهم مما وقع لأمم أخرى أبيدت بكاملها "فهل ترى لهم من باقية"
قد يقول قائل إن هذا لا يتناسب مع أخلاق نبي الرحمة ولنا أن نتساءل هل قدت قلوب الأنبياء السابقين صلوات الله عليهم من الصخور؟ ..وهل كانوا من طينة لا تعرف الشفقة والرحمة؟ أبدا هيهات هيهات لما يقولون ..
لايعدو الأمر أن يكون ضيق أفق في فهم الرحمة ..فالرحمة إنما تكون موافقة لما يرضي الله وتسليما لأحكام الله مهما كانت. وأشد ما أخشاه أن يدلف أحدهم من هذه النافذة وينظر شزرا من هذه الزاوية ليقول إن الفقهاء يحتقرون الإنسان ويجعلونه أخس من جناح الذبابة ..وفي التبريرات أن الدنيا ل اتساوي عند الله جناح بعوضة ومع ذلك يشوه الفقهاء جسم إنسان فيتبرون يده ويتركون في جسمه عاهة مستدمية بسبب اختلاس جزء من هذه "الدنيا" فمعنى ذلك أن يد الإنسان تقطع في شيء أخس من جناح البعوضة.. فهو بهذا المنطق أخس من البعوضة..
هذه ملاحظات عابرة وسريعة أردت من خلالها ان أوضح أن قصة قتل رجال بني قريظة وسبي نسائهم وأطفالهم لم تكن من نسج خيال ابن هشام ولا من ترخصات ابن اسحاق ..مع تحفظي الشديد على هذه العبارات تجاه هؤلاء الأعلام .. ولكن تلك قصة أخرى وهنا نقطة النهاية.
الكاتب والباحث أحمد أبو المعالي