وصف محمد ولد امين في مقال دفاعي جديدي عن ولد امخيطير أقوال عدد من علماء المسلمين بينهم الطبري وابن إسحاق بالمبالغات والتخرصات منكرا ما ذهبوا إليه من أقوال بخصوص حادثة بني قريظة .
في المقابل امتدح ولد امين الذاكرة اليهودية قائلا إنها "ذاكرة متقدة وملتهبة ولا مكان فهيا للنسيان " .
وهذا مقطع من المقال الذي يذهب فيه ولد امين إلى ما سبقت الإشارة إليه :
أعتقد أن هذه الكوة هي المدخل الذي تسربت منه الموجة الإلحادية العدمية التي أصبحت تتفاحش تحت باصرتنا بين شباب المسلمين في الانترنت ، فقد درج أعداء الإسلام من المستشرقين وبعض السذج من المسلمين على الاستشهاد بمبالغات وتخرصات أشخاص من نوع ابن إسحاق....الذي اعتبره سيدنا مالك ابن أنس " دجالا من الدجاجلة" ورفض اعتماد أقواله والرواية عنه، وابن هشام الذي نسج من خياله الخصيب والطفاح الكثرة من الروايات والطبري وما أدرانا ما الطبري.. وغيرهم من أصحاب التواريخ غير المنطقية التي لا يتقبلها عاقل...ولا أدل على تناقض مروياتهم من عدد بني قريظة(600 ربما 1000 وقيل 3000) ثم كيف اسكنوا في دار واحدة وكيف قتلوا بمؤشر الإنبات أي شعر العانة وحجم الخندق الذي رميت فيه جثثهم.
ولد مخيطير ليس أول من استشهد بالطبري حول مصير بني قريظة تحديداً ولا أظنه سيكون الأخير... وهو استشهاد مجحف ويؤدي إلى نتائج مبتسرة ومتسرعة تؤكد وقوع إبادة جماعية لهذه القبيلة العربية اللسان واليهودية الدين وكأن ما وقع "هولوكوست" حجازي يصلح - مع نزر قليل من سوء النية- للاستخدام والمجادلة بغية إضعاف الخصم المسلم وإرباكه وربما الإجهاز عليه.
الغريب في الأمر أن هذه الواقعة ليست بالضرورة كما يقول الطبري، بل لم تكن كما قال، بالقطع والجزم واليقين، فالبخاري ومسلم يؤكدان حدوث محاكمة طالت مقاتلة بني قريظة فقط دون غيرهم والمقصود بالمقاتلة هنا هم قياداتهم التي خانت عهد الأمة ودستور التحالف المدني ومن المعروف عند الإخباريين أن هذه المحاكمة حصلت طبقاً للشريعة اليهودية برئاسة سعد ابن معاذ.
لقد كانت محاكمة عادلة حتى بمعايير أوروبا في عصرنا الراهن. وتحصل مثيلاتها في جل دول العالم التي تعاقب بالإعدام -وحتى يوم الناس هذا- كل من تسول له نفسه حمل السلاح ضد الدولة وهي في حالة الحرب.
لقد نهج بعض كتاب السير منهجاً آخر، فمنهم من يرفض وجود القصة من أصلها وفرعها ويتحدث عن عملية إجلاء لم يقتل فيها أحد، وهذا ما ذهب إليه من أهل زماننا السعودي عبد الله ابن قرناس في كتابه الشهير سنة الأولين الذي يستدل فيه بأدلة كثيرة منها النقلي ومنها العقلي ولعل أكثرها طرافة نتائج الحفريات الضخمة التي قامت بها المملكة العربية السعودية أثناء توسعة الحرم المدني في عهد الملك فهد- رحمه الله- فحيث أن مساحة الحرم المدني الحالية تشتمل على كل رقعة المدينة المنورة خلال عهد النبوة .. فاستخلص من ذلك انه لو كان هناك قتل جماعي كما يزعم "الطبريون" لعثر عمال الحفر الذين وصلوا إلى أعماق بعيدة وعلى كل الرقعة المدنية على الخندق -أو المقبرة الجماعية- التي يزعم الطبري أن بني قريظة كوموا فيها كالجرذان. وليس في الأمر عجب فقد عثر الباحثون – بالتنقيب وأحياناً بالصدفة- على مقابر جماعية ومنذ آلاف السنين في أماكن تروي الكتب التاريخية حدوث عمليات التصفية الجسدية المعروفة بالإبادة الجماعية فيها . تبعاً لذلك وصل هذا الباحث إلى الجزم بأن مصير يهود بني قريظة كان هو نفس مصير جل يهود الحجاز ألا وهو الإجلاء الجماعي بموجب ضمانات الأمن.
في نفس السياق يستدل العالم الفلسطيني عدنان ابراهيم في رفضه لقصة المذبحة على حديث عائشة عن درع الرسول المرتهنة عند تاجر يهودي وهذا ما يثبت بقاء أفراد منهم في المدينة وضواحيها وحتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي نفس السياق يسرد قصة المتسول اليهودي الذي أمر عمر الفاروق منحه الكفاف من بيت مال المسلمين وكلها أحاديث ثابتة في "الصحاح" والمرويات الموثوقة.
لقد ازدادت دهشتي أيضا حين حاولت التعرف على مصير بني قريظة من المصادر اليهودية وقد سبق عندي العلم ان الشريعة الموسوية تولي العناية الفائقة لجثث الأموات وتساوي بين جسم اليهودي الحي وجثة اليهودي الميت ولا أدل على ذلك من الصفقات التي أبرمتها دولة إسرائيل مع حزب الله لاستعادة جثمانين مقابل مئات الأسرى العرب الأحياء..وحسب نفس التقاليد نجد اليهود العرب وحتى بعد نزوحهم إلى الدولة الصهيونية يواصلون الاهتمام المفرط بمقابرهم في الدول العربية ويؤجرون لحراستها أشداء القوم ومن ألقى نظرة عجلى على مقابر اليهود من بغداد شرقاً وحتى الصويرة غرباً سيصعق من درجة الاهتمام وتكاليفه المرتفعة مالياً.
من المعروف أيضا ان اليهود، وبعد ان تمكنوا من التغلغل والسيطرة على دوائر النفوذ في كبريات دول العالم، أخذوا يطالبون بتعويضات جسيمة من كل الدول والأمم التي تعرضوا فيها للاضطهاد فأصواتهم ترتفع بالمطالبة بحقوقهم من ألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا.. ويتبارى كتابهم ومؤرخوهم في تحديد خسائرهم خلال السبي البابلي ويدرسون سبل تكبيل العراق به وكيف يمكنهم طلب تعويضات من مصر عن الأضرار التي ألحقها بهم فرعونها الذي عاصر موسى الكليم عليه السلام.
بكل بساطة الذاكرة اليهودية متقدة وملتهبة ولا مكان للنسيان فيها.
ونقبت في الذاكرة اليهودية فوجدت ان بني قريظة ارتحلوا شمالا صوب سواد العراق واختلطوا فيه بيهود بابل وخلال الفتح تعرف العرب على بعضهم وأقروهم على أعرافهم وظلوا أهل ذمة محفوظة ٌحقوقهم وحتى خروجهم الجماعي من العراق في منتصف القرن المنصرم.
لم أجد في المصادر اليهودية دعوى واحدة تقول بحصول مذبحة في المدينة أو خيبر بل العكس تتواتر المصادر اليهودية على نفي الأمر وتتفق على أن ما حصل مجرد عمليات إجلاء مألوفة ومن بين المنحدرين من يهود الحجاز مشاهير من اليهود ومشاهير من المسلمين... منهم على سبيل المثال لا الحصر الشاعر العراقي الكبير أنور شاؤول القائل:
إن كنتُ من موسي قبستُ عقيدتي فأنا المُقيمُ بظل دين محمد
وسماحة الإسلام كانت موئلي وبلاغة القرآن كانت موردي
مانال من حبي لأمة أحمد كوني علي دين الكليم تعبدي
سأظل ذياك السموأل في الوفا أسَعدْتُ في بغداد أم لم أسعد
ومن بينهم أيضا العلامة العراقي الكبير المرحوم أحمد نسيم سوسة عضو مجمع اللغة العربية والذي رفض النزوح إلى إسرائيل ثم قادته بحوثه حول تاريخ اليهود العرب إلى دخول الإسلام وقد حسن إسلامه وألف عشرات الكتب الرصينة والموضوعية في المسألة اليهودية وفي القضية الفلسطينية وكان رحمه الله جامعة مكتملة وقد تتبع مسار يهود الحجاز في نزوحهم إلى العراق واليمن وبلاد افريقية ووصل إلى نتائج باهرة خصوصا بعد معاينته لكل التراث العبراني المتعلق بموضوع البحث.
وحسب مصادر يهود العراق فقد أناخت جمال بني قريظة في نواحي الحلة ،ومنهم من جاور قبر نبي الله ذي الكفل، ومنهم من استقر جنوباً، واغلبهم يعتقد ان قبيلة القرايظة العراقية هم أحفاد بني قريظة ولعل بعض العراقيين المناوئين لدولة الرئيس نوري المالكي العلي لا يتردد في تذكير الناس بنسب آل العلي وانحدارهم من بيت العلي القرايظي اليهودي الذي أعطى للعرب مواهب موسيقية فذة تدعى :صالح وداود الكويتي.
شخصياً لا أجد أي حرج في تجنب ما ذهب إليه الطبري وأمثاله، فالطبري ليس من الصحابة.. وليس تابعياً.. وليس شاهداً فهو لم يعاصر تلك الفترة إطلاقاً والحقيقة التاريخية المتفق عليها تؤكد ان بدايات التدوين بدأت بعد قرن ونيف من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتزامنت مع حركة الفتوحات أي في الزمن الذي كان العرب يعيشون فيه في حالة التوسع والتمدد ،وفيهم من كان يبحث عن مسوغات شرعية تبيح له القيام بما يريد من مخالفات. وهذا ما يعلل كثرة الوضاعين للأحاديث الملفقة والوقائع المزيفة وقد حاول العلماء التصدي للوضاعين وأكاذيبهم فابتدعوا علم طبقات الرجال وتقنيات غربلة السلاسل لكن الطبيعة الإنسانية تأبى الخضوع فتسربت إلى كثير من الكتب أحاديث وأقوال نسبت لنبي الرحمة مشكوك فيها ومازال الخلاف بين أجلاء العلماء محتدم في أكثر من مسألة فقهية أو تاريخية.