كنتُ أبحث عن أجمل صورة للغروب في شاطئ الصيادين بنواكشوط عندما اصطادتني صاحبة السترة الحمراء والوشاح الأخضر، دخلت السمراء الصغيرة حيّز التصوير فتحول اهتمامي من غروب الشمس إلى انحناء جسمها النحيل، فرُحتُ أراقب حركاتها بينما كانت هي تترقب بعض الأسماك التي قد تقذفها الأمواج إلى الشاطئ لتملأ بها سلّتها الخاوية.
أنانيةٌ مني أن أحوّلها إلى مادة فيلمية أو قصة دراماتيكية للمعاناة التي تعيشها شرائح واسعة من الأطفال حول العالم ولدوا بهموم الفقر والحاجة فوجدوا أنفسهم كادحين في عمر صغير، لكنني في تلك اللحظة كنتُ أمارس فضولي الصحفي في مراقبة صيادة صغيرة ضعيفة لا يتجاوز عمرها عشرة أعوام تحوم وسط عشرات الصيادين الرجال ذوي البنية الجسدية القوية.
كان عددهم كبيرا، بعضهم يستعد للإقلاع في رحلة صيدٍ جديدة، فيما يقترب البعض الآخر من الشاطئ عائداً بما جاد به البحر في ذلك الثلاثاء الحار في العاصمة الموريتانية. نسمات البحر لم تخفف من رائحة السمك القوية ولم تشغلني حركة الصيادين وأصواتهم المرتفعة عن تلك الصغيرة الضائعة وسط زحمة البحث عن الرزق.
تُحدقُ هي في الأفق البعيد وكأنها تنتظر عودة أحدهم، وأُحدِّق أنا في حركاتها المتناغمة مع حركة الأمواج تنحني تارة لتجمع ما يسّره لها الموج وتستقيم تارةً أخرى لتلتقط أنفاسها دون أن يغادر نظرها قوارب الصيادين المترامية في أطراف الأزرق الكبير.
تأملتها طويلاً وهي تحاكي البحر، لعلها أقل حظاً من أقرانها الذين يقصدون البحر للسباحة والاستجمام واللّعب لكنها أوفر حظاً من الذين وجدوا أنفسهم أمام البحر كملاذٍ وحيد للعبور إلى ضفة أكثر أمناً. سبقها إلى البحر أطفال التشرد واللّجوء، ركبوا قوارب النجاة ولم يصل عددٌ كبيرٌ منهم إلى الضفة المنشودة، شواطئ الأحلام تبخرت أمام من غرق منهم واسودت الحياة في أعين من أُعيدوا من حيث أتوا فماتوا جوعاً أو برداً أو قهراً.
حظيت هي على الأقل بالحياة التي حُرم منها الصغير "آلان الكردي" قبل عام عندما قذف البحر جسده الصغير إلى شاطئ تركي كان انطلق منه مع عائلته للبحث عن حياة خالية من القتل والدم.
أخذت هي على الأقل حقها في المشي على رمال الشاطئ بسلام دون أن تترصدها قذيفة إسرائيلية مثل أطفال عائلة بكر الأربعة الذين حوّلت الدموية السرائيلية أجسادهم الصغيرة إلى أشلاء متناثرة على شاطئ غزة قبل عامين.
هي حيّةٌ تُرزق على الأقل فوق هذه الرمال لكنها لم تشبع من البراءة بما يكفي لتبتسم لي وأنا أحاول أن ألتقط لها صورة، واكتفت بالوقوف أمام ذاك القارب الذي كُتب عليه "لا ضار ولا نافع إِلَّا الله"، وكأنها تريد أن تنقل إليَّ قلّة حيلتها أو عدم استيعابها لسبب وجود امرأة مثلي في مكان كهذا.
مرّ الوقت بسرعة وبدأ الشفق يلوح في الأفق. لوهلةٍ عادت بي أمواج الذاكرة إلى ساعات خلت في مكان غير بعيد عن ذلك الشاطئ، تذكرتُ نفسي وأنا أقف تحت أشعة الشمس الحارقة في الساحة القريبة من قصر المؤتمرات لأنقل على شاشة الجزيرة ما يناقشه القادة العرب من مقترحات لحل مشاكل شعوبهم، وتذكرتُ كيف كنتُ أتنقل بين قاعة الإعلاميين وأروقة جلسات القمة العربية لأحصل على سبقٍ هنا أو خبرٍ هناك أتفوّق به على زملائي من القنوات الأخرى.
تذكرتُ التعب والحرّ وطول الانتظار فوجدتُ تأففي من بعض المشاكل الفنية نقطةً في بحر بؤسها وشقائها، كان أقصى طموحي سبقٌ لم يتحقق أمام تكرار كلامهم وكان أقصى حلمها سمكة نفقت أمام عجزهم عن نقل البؤساء مثلها إلى برّ الأمان.. كانوا في قمّة عجزهم وكانت في قمّة شقائها وكنتُ في قمّة حيرتي.
لم يستطيعوا إنهاء مآسي الشعوب ولم يوفروا لها حياةً كريمة، لم يردعوا القتلة والمجرمين ولم يحاسبوا الطغاة المتاجرين بدماء شعوبهم، تواطأ بعضهم مع الظالم وسكت آخرون وغضّ الباقون الطرف، وقفتُ أمام الكاميرا لأتحدث عن قرارات خرجوا بها لتغيير هذا الواقع فضاعت أحرفي مع كلامهم المكرر عن الإدانة والرفض والشجب دون قرارٍ واحدٍ كفيلٍ بتحسين مصير شعوبٍ فقدت الأمل فيهم مثلما افتقدوا الشعور بآلامها..
عُدتُ إلى شاطئ الصيادين، طفلة الشاطئ مازالت هنا، لا أعرف كم من السمك جمعت شباكها، ما أعرفه أنني نجحتُ في التطفل عليها بعدستي، كم وجدتُ نفسي صغيرة أمام هذه الكبيرة! وكم كانت هي كبيرة أمام ذاك المحيط!
فجأة أدركتُ أن الشمس التي جئتُ أتعقب غروبها لا تشرق على هؤلاء سوى لتذكرهم بأن الشقاء مستمر إلى أن يغرب الفقر عن المقهورين.