يعتبر جمال عبد الناصر رمزا للوحدة العربية والكرامة الإنسانية ، وقائدا بارزا لحركات التحررفي جميع أنحاء الوطن العربي وإفريقيا، وبطلا فذا أضفى شعورا في أمته بالقيمة الشخصية والعدالة الاجتماعية ، والكرامة الوطنية ، وفي عهده ارتبطت شعارات الكفاح من أجل حرية الجماهير العربية بكافة فئاتها، بمسألة التفاعل والتساند بين النضال القومي التحرري والنضال الاجتماعي التقدمي، حتى وصل القوميون في زمنه إلى الحكم في ستة أقطار عربية ، وكان بينه وبين المواطنين العرب علاقة تليدة ومتجددة ، فقد وهب هذا القائد حياته ومواهبه الفذة في سبيل قضاياهم المصيرية .
كما أن أبناء هذه الأمة قد حملوا حبه في صدورهم ، وكتبوا الكثير من الملاحم الشعرية في شأنه ، وألفوا الكتب حوله وترجموا له في جميع المناسبات ، حيث يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي : " قد مات جمال وليس بعجيب أن يموت، فالناس كلهم يموتون، لكن العجيب وهو ميت أن يعيش معنا - وقليل من الأحياء يعيشون وخير الموت ألا يغيب المفقود وشر الحياة الموت في مقبرة الوجود، وليس بالأربعين ينتهى الحداد على الثائر المثير. وقد كان البطل الماثل فلتة زعامة وأمة قيادة وفوق الأسطورة للريادة لأن الأسطورة خيال متوهم وما فوق الأسطورة واقع مجسم، وللزعامات في دنيا الناس تجليات فليس الزعيم الذى يعمل لك بنفسه طوال عمره إلى نهاية أجله، لكن الزعيم الذى يعلمك أن تعمل بنفسك لنفسك طوال عمرك إلى نهاية أجلك، وعلى مقدار تسلسل الخير فيه يكون خلود عمره.." .
ومع هذا كله فإنني أدرك أن الكتابة عن القادة العظماء ينبغي أن تتم من خلال وعاء ضخم كالمجلدات والموسوعات ، أما القوالب الضيقة مثل المقالات والتقارير فإنها ستبقى مبتورة ومشوهة ، ومع ذلك فإن هذه المعالجة برمتها سوف تكون ناجحة إذا استطاعت أن تسلط الضوء على نهج القائد الكبير جمال عبد الناصر في هذا الظرف بالذات ، الذى تعمقت القطيعة بين أجياله ، بفعل العولمة والاعلام المضلل والعوالم الافتراضية ، حتى أضحى الكثير من أبناء أمتنا اليوم لا يفكرون إلا من خلال رؤية خصومهم ، ولايعرفون شيئا عن قادتهم الكبار ، ولا عن رصيد آبائهم الأخلاقى والسياسى المشرف .
لذلك أردت أن أثيرهذا الموضوع تقديرا للقائد العظيم جمال عبد الناصر بمناسبة انعقاد القمة العربية في هذا الزمن الصعب ، " ففي الليلة الظلماء يفتقد البدر " ، واحتفاء كذلك بذكرى ثورته المجيدة في 23/ يوليو 1952 التي انتزعت للمواطن العربي كرامته ، ورسخت في وجدانه شعورا بالعزة والكبرياء ، وزرعت في نفسه الأمل بالوحدة والحرية والعدال الاجتماعية ، من خلال جهد مشهود ، ومناقب جمة ومحامد كثيرة ، نهضت بها هذه الثورة وصدحت بها حناجر الجماهير العربية على اختلاف مشاربها وتوجهاتها ، من المحيظ إلى الخليج ، وخلدت ملاحمها أدبيات التنظيم الوحدوي الناصري ، الذي خاض معركة شرسة وطويلة من أجل استعادة هوية موريتانيا الوطنية والعربية ، التي تحلق بالجناحين اللذين يحملان قيم الإسلام و عزته مع فصاحة اللسان العربي وبيانه ، لتساهم في بناء التراث العالمي ، ومنظومة الإنتاج الحضاري ، لأنها تنهل من معين الثقافة الإسلامية وما تضمنته الشريعة من عقيدة ومعاملة وسلوك، وقوانين وأحكام ، " فنحن أمة أعزنا الله بالإسلام ولا نبتغي العزة بغيره "، ومحيطنا من الدول الإسلامية متفاعل مع المركز العربي محبة وإخلاصا ، بعيدا عن " رؤية الفضل على الغير" ، وستبقى هذه المعاني المقدسة قاسما مشتركا ، وسببا مباشرا للإلتقاء مع أي قائد أومناضل في ساحات التعبئة والتقدم ، ومن هذه المنطلقات استطاع عبد الناصر مؤمم قناة السويس، وباني "السد العالي "، أن يلج باب الجماهير العربية ، وطفق يقود مسيرتها ويتصدى لأعدائها ويخطط لمستقبلها ، فما هي حقيقة هذا القائد العظيم ؟ وهل ستستحضر قمة الأمل مواقفه في هذا الليل البهيم ؟.
ـ محطات بارزة من السيرة النضالية لجمال عبد الناصر :
ولد جمال عبد الناصر في 15 يناير 1918 في حي باكوس الشعبي بالإسكندرية . من أسرة صعيدية، تنتمي إلى بلدة بني مُر بمحافظة أسيوط ، قبل ثورة 1919 في مصر بسنة واحدة ، ونشأ وتعلم بالإسكندرية والقاهرة ،وكانت بدايات الوجدان القومي لجمال عبد الناصر ؛ قد تكونت في عام 1930 بعد أن أصدرت وزارة إسماعيل صدقي مرسوماً ملكياً بإلغاء دستور 1923 فثارت مظاهرات الطلبة تهتف بسقوط الاستعمار وبعودة الدستور.
وقد تركت هذه المظاهرات أثرا بالغا في حياة عبد الناصر ، ففي خطابه بميدان المنشية بالإسكندرية بتاريخ : 26/10/1954 وصف مؤسس النظام الجمهوري في مصر أحاسيسه في تلك الفترة بقوله : "... تذكرت كفاح الإسكندرية وأنا شاب صغير وتذكرت في هذا الوقت وأنا اشترك مع أبناء الإسكندرية ، وأنا أهتف لأول مرة في حياتي باسم الحرية وباسم الكرامة، وباسم مصر... أطلقت علينا طلقات الاستعمار وأعوان الاستعمار فمات من مات وجرح من جرح، ولكن خرج من بين هؤلاء الناس شاب صغير شعر بالحرية وأحس بطعم الحرية، وآلي على نفسه أن يجاهد وأن يكافح وأن يقاتل في سبيل الحرية التي كان يهتف بها ولا يعلم معناها؛ لأنه كان يشعر بها في نفسه، وكان يشعر بها في روحه وكان يشعر بها في دمه ".
وبعد هذه الفترة استمر عبد الناصر في نشاطه السياسي فأصبح رئيس اتحاد مدارس النهضة الثانوية بحي الظاهر بالقاهرة بعد أن التحق بها سنة 1933.
وعندما رفضت ابريطنيا في9 نوفمبر1935 عودة الحياة الدستورية في مصر، اندلعت المظاهرات في البلاد وقاد جمال عبد الناصر مظاهرة من تلاميذ المدارس الثانوية واجهتها قوة إنجليزية فقتل اثنان من المتظاهرين وأصيب عبد الناصربرصاصة في جبينه ، ونشر اسمه بين أسماء الجرحى. في مجلة الجهاد ، ومع ذلك نجحت هذه المظاهرات وصدر مرسوم ملكي في 12 ديسمبر 1935 بعودة دستور 1923.
وبما أن عبد الناصر كان مفعما بالوعي العربي إلى أبعد حد ، لذلك فقد كان يخرج مع زملائه كل عام في الثاني من شهر نوفمبر احتجاجاً على وعد "بلفور" الذي منحت بموجبه ابريطانيا لليهود وطناً في فلسطين على حساب أصحابه الشرعيين.
وعلى أثر هذه الجهود انضم عبد الناصر إلى وفود الطلبة التي كانت تسعى إلى بيوت الزعماء تطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر ، وتألفت الجبهة الوطنية لتسجل اعتراضها بشدة على المعاهدة الابريطانية المصرية لسنة 1936 التي قننت الاحتلال ونصت على استمرار وجود قوات عسكرية بريطانية في البلاد، ، وفى حال وقوع حرب تكون الأراضي المصرية بموانئها ومطاراتها وطرق مواصلاتها تحت تصرف بريطانيا ، وقد أيدت القيادة السياسية في مصر هذه المعاهدة بالإجماع تقريبا .
وكان من نتيجة النشاط السياسي المكثف لعبد الناصر الذي رصدته تقارير الشرطة في كافة المراحل ، أن قررت مدرسة النهضة فصله بتهمة التحريض والثورة، إلا أن التلاميذ أعلنوا الإضراب العام وهددوا بحرق المدرسة فتراجع المدير عن قراره .
وقد وصف عبد الناصر شعوره في هذه الفترة في كتاب "فلسفة الثورة" فقال: "وفى تلك الأيام قدت مظاهرة في مدرسة النهضة، وصرخت من أعماقي بطلب الاستقلال التام، وصرخ ورائي كثيرون، ولكن صراخنا ضاع هباء وبددته الرياح أصداء واهية لا تحرك الجبال ولا تحطم الصخور " .
غير أن جمال عبد الناصر قد أيقن بعد هذه التجربة التي مر بها في العمل السياسي عبرتيارات مختلفة ، واتصالات مكثفة بقادة الاحزاب في بلاده ، أن تحرير مصر لن يتم بالخطب وحدها بل يجب أن يقابل الاحتلال العسكري بجيش وطني لذلك فإن عبد الناصر لما أتم دراسته الثانوية وحصل على البكالوريا في القسم الأدبي قرر الالتحاق بالجيش .
يتبع
باباه ولد التراد