عندما نشر الشاعر المصري والمحقق الجليل عبد الله الصاوي المتوفى بالقاهرة سنة 1978 كتابي المسعودي: أخبار الزمان والتنبيه والإشراف (وهو نفس مروج الذهب) سنة 1938 قدم لهذين الكتابين بشيء من أخبار المؤرخ الكبير المسعودي (سليل الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه). وفي مقدمات هذا الباحث، الذي كان مولعا بالتراث العربي تحقيقا ونشرا، أورد نبذة لطيفة عن الشناقطة، وسرد قصة لا تخلو من مبالغة، لكن طرافتها ودلالتها وعلاقتها بالمسعودي أمور جعلت المحقق يذكرها في سبيل التنويه بتآليف المسعودي واعتناء الناس بها.
يقول عبد الله الصاوي: "ولقد حُدِّثْتُ أن مستشرقا استهواه علمُ المسعودي، وأسلوبُه الجذابُ، وفتنته إحالاتُه العجيبة، فبحث أولا بنفسه، ثم لجأ إلى حكومته فأمدته بالمال، فظل يبحث ويتابع البحثَ، حتى عثر على نسخة من كتاب "أخبار الزمان" في مدينة شنقيط بصحراء إفريقية، فرام شراءَها، وبذل فيها ثمنا عاليا، فما سمحت أنفس الشناقطة ببيعها، ولا رضوا أن يستبدلوها بالذهب الوفير. فلما أعياه شراؤها عرض عليهم أن يصورها بالفتوغرافيا نظير مبلغ من المال جسيم، فما أعاروا عرضه ذلك التفاتا، بل منعوه النظر إليها والاستمتاع بها. فرحل عنهم حقبة من الدهر، ولما استيقن أن القوم قد أنسوا شخصه، وما كان قد جاء لأجله، عاد إليهم خائفا يترقب، وقد عزم استنساخها، فاكترى رجلا منهم عهد إليه باستنساخها.
لكنهم إذ فطنوا إلى الامر، لم يجدوا جزاء لهذا المستشرق -الذي أحب العلم، وضحى بوقته وراحته ولذاته في سبيله، واستمات في تحصيل فكرة قد يصل نفعها إلى جميع المسلمين في مشارق الارض ومغاربها- إلا القتل، فذهب ضحية إحالات المسعودي، والبحث عن كتبه!"
هذه قصة طريفة فعلا ولها أكثر من دلالة؛ منها استماتة المستشرقين في البحث والتنقيب، وتحمل المشاق وتكبد الأهوال للحصول على مبتغاهم المعرفي، ومن معانيها حب الشناقطة لكتبهم وتمسكهم بها، ورفضهم أن تمسها يد الأجنبي مهما كان أحرى إذا كان نصرانيا يخشون التعامل معه ويخافون أن يكون جاء لأغراض ونوايا.
ولا شك أن المحقق عبد الله الصاوي أورد هذه الحكاية في أسلوب غير مؤكد فهو لم يسمِّ هذا المستشرق ولم يحدد جنسيته، ولا أوضح من تكون هذه الحكومة التي مولت مشروعَه البحثي وأعانته حتى وصل موريتانيا، ولم يذكر تاريخ مجيئه لمدينة شنقيط، وأورد النص وقد بدأه بالفعل "حُدِّثتُ" المبني للمجهول وهو من صيغ التضعيف والتمريض عند رواة الحديث وناقلي الأخبار، وكلها أمور تجعلنا لا نعرف صحة هذه القصة من كذبها؛ خصوصا وأن ذاكرتنا الحديثة –حسب علمي- لا تتمسك بقصة هذا المستشرق الذي قتل في شنقيط، ولا نجد له ذكرا في الرواية الشفهية المحلية عند أهل مدينة شنقيط المعروفين بتوثيقهم للحوادث وتدقيقهم في النقل والبحث وحفظهم لتاريخ مدينتهم بشكل مفصل ودقيق.
ومن المعلوم أنه في مكتبة المخطوطات بالمعهد الموريتاني للبحث العلمي نسخة من كتاب التنبيه والإشراف (مروج الذهب) قديمة جدا وجميلة جدا وقد كتبت على جلد غزال، وقد قامت بعض الجهات العلمية الأوروبية بترميمها في السنوات الماضية حتى صارت في مأمن من التلف. ومصدر هذا المخطوط النادر هو مدينة ودان، وكان ضمن مقتنيات العالم الجليل والمؤرخ الرحالة: الطالب أحمد بن طوير الحنة الحاجي الوداني، وربما يكون من المخطوطات التي جاء بها بعد رحلته الحجية الشهيرة. فهل هذا المخطوط هو الذي حاول بعض المستشرقين الحصول عليه فمنع من ذلك، فتم تأليف هذه القصة العجيبة عن ذلك؟
من صفحة المؤرخ سيدي أحمد ولد الأمير