التصوف الطيني..
أثار تعليق الكنتي على محاضرتين قيمتين لفاضلين من أهل التصوف في ديوان الولي محمذن لغطا واسعا في وسائط التواصل الاجتماعي، والمواقع الألكترونية في وطننا الغالي. بعض اللغط يحاول ردا ينحو إلى الموضوعية، وغالبه لا يخرج من دائرة اللغط. وبعيدا عن اللغط كتب منصفون، ومن بينهم من أخاصمه سياسيا، تثمينا للتعقيب وتعضيدا له. ما أريد أن أضيفه، في هذا الادراج، هو زيادة بيان لما أشكل في التعليق، وبيان موقف الكنتي من التصوف، والمتصوفة...
كنت بينت في التعليق فضل بعض أساتذتي في الثانوية. وحين انتقلت إلى الجامعة في جماهيرية معمر رحمه الله حظيت بأساتذة متميزين من ليبيا وسوريا ولبنان. كنت أسكن القسم الداخلي، فكان لدي فائض من الوقت صرفته في مطالعة أمهات كتب الفكر الإسلامي، فقد كانت الكتب سلعة مدعومة؛ قرأت كتب الفرق، والمشاريع الفكرية المعاصرة لحسين مروة، صادق جلال العظم، طيب تيزيني، حسن حنفي، محمد عابد الجابري، محمد أركون... فبدا لي، من كل هذه القراءات وغيرها، أن العقلانية في الإسلام كلما حاولت إشادة منظومة معرفية أجهض مسعاها فكر وافد. فقررت أن أتتبع هذه الظاهرة في بحوثي الأكاديمية بدء بالبكالوريوس، مرورا بالماجستير، وانتهاء بدكتوراه الفلسفة. فكان بحث تخرجي، في الدراسات الجامعية الأولى عن الأشعري بصفته معتزليا. ركزت على أن العقلانية المعتزلية أجهضتها الفلسفة اليونانية التي تعرف عليها المسلمون مكتملة البناء فمالوا عن علم الكلام إليها. لذلك كان أول فيلسوف في الإسلام الكندي الذي كان من رؤوس المعتزلة. ثم جاء أبو الحسن الأشعري محاولا إعادة الاعتبار للعقلانية الإسلامية ممثلة في الفكر المعتزلي قبل أن يمتزج بالفلسفة على يد العلاف وابن أخته النظام. لكن هذه المحاولة سيتم إجهاضها على يد الفكر الصوفي الوافد. نهض بذلك الغزالي والقشيري. كان عنوان رسالة الماجستير: إشكالية الجمع بين الشريعة والحقيقة عند متصوفة الأشاعرة.
ومثلما حظيت بأساتذة متميزين في المرحلة الجامعية الأولى، كانت مرحلة الماجستير تحت إشراف قامتين علميتين على مستوى الوطن العربي: دكتور جعفر آل ياسين، متخصص في الفلسفة الإسلامية. دكتور كامل مصطفى الشيبي متخصص في التصوف الإسلامي، وكلاهما شيعيان عراقيان. طلبت إلى آل ياسين الاشراف على رسالتي، فلما علم موضوعها نصحني بالدكتور الشيبي، فهي من صميم تخصصه. حين أبلغت الشيبي بالفرضية التي أنطلق منها، قال لي: لا أقبل طالبا لديه وجهة نظر. واقترح علي موضوعا مختلفا. قلت إنني متمسك بفرضيتي. قال: لا أقبل الاشراف عليك. عدت إلى آل ياسين، فتوسط عند الشيبي لكنه أصر على الرفض. قبل آل ياسين الاشراف علي، مع انتداب مشرف ثاني متخصص في التصوف، دكتور مصري أطروحته عن الملاماتية.
كنت أعلم أن الموضوع قد يكون حساسا في الوسط الموريتاني لذلك كتبت إلى سليل عائلة تيجانية عريقة؛ محرر كتاب "المنارة والرباط"، رسالة مضمونة الوصول أستنصحه فيها. وما زلت أنتظر رده إلى يوم الناس هذا. فعددت ذلك "إشارة" عملت بمقتضاها " فجاء العمل خلوا من أي إشارة إلى الطريقة التيجانية. وهو نقص بدا لي أن القارئ الكريم سيتفهمه، ومن ثم ربما كان أفضل من زيادة يساء فهمها...") من مقدمة الكتاب(.
ثم ناقشت، بعد ذلك بتسع سنوات 2006 أطروحة دكتوراه الفلسفة تحت عنوان: تصور العلم في عصر النهضة العربية بين العلمانيين والتأصيليين. أدافع فيها عن فرضية مقتضاها أن عقلانية إسلامية بدأت معالمها تتشكل مع الأفغاني وعبد، ورضا. غير أن الفكر الغربي الوافد على يد شبلي اشميل، وفرح أنطون، وإسماعيل مظهر سد الطريق في وجه تمكين العقلانية الإسلامية لدى النخبة المصرية.
هذا هو مساري الفكر الذي قررته، منذ المرحلة الجامعية الأولى. حرصت، في تناول الطرق الصوفية، إلى الابتعاد عن الطرق الموريتانية، وإنما تناولت الطرق بتعميم مجرد تدل عليه عناوين الفصل المخصص لها: أ- طريقة الشيخ: شريعة للمريد. ب – الولي: وريث النبي. ج- الورد: إنتاج نص. د- الرياضة: غاية العبادة.
خلصت إلى استحالة الجمع بين الشريعة والحقيقة، وهي نفس النتيجة التي دافعت عنها في ندوات أشرفت عليها في رمضان بمناسبة نواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي، تحت عنوان الشريعة الحقيقة، أقدم فيها قراءة لرحلة موسى عليه السلام والعبد الصالح. تجدونها على اليوتيوب.
تلكم إضاءة قد تكون مفيدة أستخدمها مجازا إلى ما أشكل على بعض متابعي التعليق، وهو قولي إن المتصوفة ليسوا أهل رواية، ولا أهل دراية. وكنت أحسبني أمدحهم بذلك. فمن المعلوم أن الرواية والدراية من مناهج علوم الظاهر. أما علوم الباطن فلا يركن أصحابها إلا إلى الكشف والالهام. وقد أكد الغزالي ذلك في كتابه: المنقذ من الضلال، حين رفض المعارف المتحصلة من الحواس، ورفض المعرفة الحاصلة من العقل عند الفلاسفة والمتكلمين: "فلم يكن الكلام في حقي كافيا". ثم خرج من شكه بقوله: " آمنت بنور قذفه الله في قلبي"، بلا واسطة من رواية ولا دراية.
أما كون بعض أهل التصوف اشتغل بعلم الظاهر، مثل الغزالي، فلا مندوحة لهم عن الرواية والدراية. فالغزالي في المستصفى، ليس هو غزالي إحياء علوم الدين. وما دام بعض المعلقين حشد ما عده "برهانا" على ثبوت قدم أهل التصوف في الرواية، فهاكم ما قاله بعض أهل العلم في رواية المتصوفة.
يقول يحي بن سعيد القطان، أحد أئمة الحديث والجرح والتعديل: "لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث." أنظر صحيح مسلم 1: 14.15، وتدريب الراوي 1: 238، نقلا عن موقع: نصوص معاصرة، مركز البحوث المعاصرة في بيروت، ص39.
ويتأول بعض المتصوفة حديث: " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"، تأويلا يفتح باب الكذب عليه صلى الله عليه وسلم واسعا. يقول الإمام ابن الجوزي: "إن بعض المخذولين من الوضاعين أحاديث الترغيب قال: إنما هذا الوعيد لمن كذب عليه، ونحن نكذب له، ونقوي شرعه..." الإمام ابن الجوزي وكتابه الموضوعات، أطروحة دكتوراه في الحديث وعلومه، محمد أحمد القيسوت، جامعة البنجاب، لاهور باكستان، ص:285، النسخة الإلكترونية.
أما ادعاؤهم أن التصوف هو الاحسان فيحتاج إلى دليل أعيى الصوفية حتى اليوم. ذلك أن تاريخ الأفكار مضبوط نسبيا، وظهور المصطلحات دال على تزامنها مع الماصدقات التي تندرج تحتها. فلفظ التصوف أطلق أول مرة على جابر بن حيان ) ولد 101، أو 117 هجرية. وتوفي 195، أو 197( في الكوفة، ومات بها سجينا. يعد جابر مؤسس علم الكيمياء، وللخيمياء صلة وثيقة بالسحر، وهو صيدلاني بارع. كما أطلقت لفظة صوفي على أبو هاشم الكوفي ) توفي حوالي 150 هجرية(. ولم تظهر صيغة الجمع صوفية إلى عام 199 في خبر فتنة في الإسكندرية، فكانت تدل على مذهب صوفي يكاد يكون شيعيا. ) أنظر الكنتي: إشكالية الجمع... ص: 63(. كل هذا لا صلة له بحديث جبريل عليه السلام. ثم إن ادعاء فرقة أنها تحققت في مقام الإحسان دعوى تزكية عريضة. ولم يكن ذلك منهج الصحابة ولا التابعين؛ فقد كان ابن الخطاب يخاف أن يكون سمي لحذيفة في المنافقين. فلما قيل له: لقد بشرت بالجنة. قال: لعلها على شرط لم يقع.
وهؤلاء الذين يدعون التحقق في مقام الاحسان منهم من لا يحضر الجماعة، ولا يصلي الجمعة. وقد رأينا البعض في مجالس الرقص والغناء، فهل كان فيها يراقب الله الذي أمر بغض البصر؟
أما قولهم إن بنوة الروح آكد من بنوة الطين، فلا أصل له في دين الله. لقد احتج له أحد المعلقين بحديث " سلمان منا أل البيت"، وما هو بحجة له. في المباهلة: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ آل عمران61، اصطحب النبي صلى الله عليه وسلم عليا والحسن والحسين وفاطمة. فلو كانت البنوة الروحية آكد من البنوة الطينية لكان اكتفى بسلمان، أو اصطحبه معه على أقل تقدير.
ضف إلى ذلك أن البنوة الروحية آكد من البنوة الطينية خاصة بالمريد الذي يراد انتزاعه من ذويه. بدليل أن الشيخ لا يرثه في المشيخة إلا ابنه الطيني، على كثرة أبنائه الروحيين، الذين لا يرثون الشيخ، حتى ولو كان لا طين له من صلبه، صرفت القيادة الروحية إلى طين يمت إلى طين الشيخ بصلة...
وبعد..
لست معنيا بالتصوف الطيني في بلادنا؛ فهو رأسمال رمزي لعائلات، وقبائل أحترمها، أترحم على موتاهم ولي قرابة وصداقات في أحيائهم. حين أنتقد التصوف فبلغة العموم؛ لا أخصص ولا أعين. لكنني لا أسكت ليساري، مفاخر بيساريته، يعرض بي: " عداؤك للتصوف لا ينفعك ولا يضره."
ونسي اليساري تدوينته: " أنا سائر وأنتم تنبحون"، 06 يناير 2014 التي يقول فيها ".. يتيح لي الاعصار أن أسب الله والملائكة والنبيين، وأن أقول " على مريم بهتانا عظيما"... يمكنني أن أنشر الكذب، وأن أمارس في ما {كذا في النص} أكتب القدح والذم والتشهير.. وأن أثير الكراهية والبغضاء والعنصرية بين الموريتانيين..." فما الذي يصل هذا، وأمثاله، بالتصوف سوى طين تفصله عنه المجابات الكبرى ومرتزقة فاغنر!!!
اتركوني ما تركتكم.
وإياي والسخرية "باتكنتي" مخافة أن يجر النحوي "للدقزينبي".
والعاقبة للمتقين...
محمد إسحاق الكنتي