يعتبر القائد الصيني سون تزو صاحب كتاب "فن الحرب"، أول كتاب في علم الاستراتيجيات، أن النجاح هو أن تكسب المعركة دون أن تخوضها. ولذلك كان قادة الصراع العظام عبر التاريخ يبحثون عن طرق لضرب الخصم في معنوياته من خلال حرب نفسية تقوم على شن حملات البروبغندا الموجهة والتي تكون كافية في بعض الأحيان لهزيمة الخصم وضرورية دائما لجعل الانتصار عليه ممكنا بأقل تكلفة.
معلوم أن البروبغندا تسعى للتأثير على المستهدف من خلال إشاعة معلومات غير دقيقة غالبا، ومع ذلك فلا يجد المرء - بعد التفكير – غضاضة في تفهم ذلك في الحرب أو في الصراع السياسي، خصوصا إذا كان هذا "الكذب" سيقلل من التكلفة البشرية والمادية للصراع، والحرب خدعة على كل حال. لكن ما تصعب استساغته هو أن يستخدم البعض هذه الوسيلة - التي يراد منها أصلا تقليل تكاليف الصراع - من أجل رفع الكلفة أو فتح جبهات جديدة، والأغرب من ذلك أن يستخدمها ضد أهدافه المعلنة التي يسعى لتحقيقها وضد مصلحة القضايا التي يتبنى الدفاع عنها.
لقد اقتصرت الممارسة السياسية لمعارضتنا في السنوات الأخيرة على البروبغندا الموسمية، وهو أمر مشروع سياسيا في كثير من الأحايين لكنه مع ذلك حري بالنظر والنقد، سواء من المعارضة نفسها أو من خصومها في النظام أو من المراقبين عموما، ففي كل مرة نرى موضوعا جديدا يتم النفخ فيه، وحشد الناس له، والسير بهم بين الجامعين من أجل الحديث عنه، في انتظار موسم جديد وموضوع جديد. فأين الحديث عن الجفاف الذي كان سيضرب البلد؟ وأين خطورة مشروع الحالة المدنية على الاستقرار؟ وأين انتهاء صلاحيات المؤسسات البرلمانية؟ وأين الفراغ الدستوري؟ وأين الحرب بالوكالة في مالي؟ وأين شائعة حرق المصحف الشريف؟ وأين تخلي البنك الإسلامي عن مشروع الطاقة؟ وأين الرحيل؟ وأين المشاركة في عاصفة الحزم؟ لا يهم، فكل ذلك من الماضي، ونحن الآن في موسم جديد، موسم التحريف في خطاب الرئيس.
بإمكان الجميع اليوم تقييم هذه الحملات الموسمية ومعرفة حقيقتها ونتائجها بحكم أنها مواضيع عامة صارت من الماضي، لكنه من المهم التوقف عند حالتين منها للأهمية القصوى للمواضيع التي تعلقت بها (الدين والوحدة الوطنية) والتي ينبغي أن تكون بعيدة عن الميكافيلية السياسية، وكذلك لاختلاف نوعية البروبغندا المستخدمة فقد كانت تحريضية ولم تكن تستهدف تشويه صورة الرئيس ولا النظام فقط بل تعدته - عن سوء تخطيط – لتهديد أمن البلد وضرب وحدة مكوناته.
لقد كادت الحملة التحريضية التي صاحبت شائعة حرق المصحف الشريف أن تعصف بأمن البلد كما عرضت سمعته للتشويه عند الشعوب الإسلامية، حيث تم شحن الأطفال والشباب من خلال الإعلام والمنابر للخروج في مسيرات ضد مجهول، واليوم بعد انتفاء إمكانية الاستغلال السياسي للموضوع فلم نعد نسمع من يتكلم عنه كما أنه لا يمكن لأي كان أن يدعي حوزته على أي دليل عن صحته، بل القناعة العامة أنه حدث غير مقصود - إن كان حدث أصلا - ومن خرج عن تلك القناعة فقد ذهب مذهب وكالة الأخبار في تحقيقها الاستقصائي الذي خلص أنه عمل مدبر من طرف تنصيريين، فهل راجع المحرضون أنفسهم؟ وما هي النتائج التي تحققت لهم وللوطن؟ وماذا كان يمكن أن يتحقق أصلا؟ وكيف يرى من راهنوا على انهيار النظام في "جمعة الشهيد" الأمور اليوم؟ وهم في أحسن الأحوال كانوا يساهمون - حسب موقع الأخبار - في تنفيذ خطة المنصرين؟
عشنا أيضا في الأيام الماضية بروبغندا تحريضية منظمة تستهدف في ظاهرها صورة رئيس الجمهورية، لكنها في عمقها تضرب وحدة المجتمع من خلال العمل على شحن مكون من مكوناته عن طريق الترويج أن الرئيس أساء إليه، وربما في نظر المروجين فهم يسعون لضرب شعبية الرئيس لدى هذا المكون، لكنهم تناسوا أنهم يستخدمون في ذلك قضية مقدسة ينبغي أن تظل بعيدة عن الاستغلال السياسي وتحتاج تكاتف الجهود لحلها، كما أنه ليس من مصلحتها أن يُحدث بينها شرخ مع أي كان أحرى أن يكون رئيس الجمهورية.
وكما تبين اليوم أن قصة حرق المصحف مجرد إشاعة فقصة الإساءة كذلك، فالرئيس في خطاب 3 مايو وضح أن دور الأسرة ضروري مع دور الدولة في التعليم فهو سابق له ومكمل له، فتهيئة الظروف من خلال أسرة مستقرة قادرة على التربية وتوفير الحاجيات المادية لتعليم الأبناء أمر مهم، وهذا أمر عام في المجتمع الموريتاني لكنه إن قصدت به مجموعات محددة فلا يمكن أن يعتبر إساءة بأي حال، بل هو رأي يقبل الخلاف لكنه رأي من يبحث عن الحلول ومن يفكر بمستقبل الأطفال.
لقد غطت الحملة التحريضية على نقاش آخر كان سيكون أكثر أهمية للقضية، فقد كان الرئيس شجاعا بالحديث عن موضوع حساس بكل صراحة وفي عمق الداخل الموريتاني، فقد تحدث عن العبودية حين ذكر أنها مرض عرفه شعبنا كغيره من شعوب الأرض وأن علينا أن نواجه مخلفاتها بكل شجاعة وصدق. لقد كان من الممكن اتخاذ هذه الخطوة فرصة لتقييم ما يعتبرة النظام إنجازات في هذا المجال وكذلك للحديث عن ما يمكن القيام به.
عند النظر للحملتين السابقتين نجد أنهما عكس ما يراد من البروبغندا عادة، فهما لم يساهما بصورة أكيدة في حل المشاكل المثارة، كما أنهما لم يحققا أيا من الأهداف المشروعة و "الأخلاقية" للمعارضة في مقارعة النظام، ولو عدنا قليلا للعقدين الماضيين لاستذكرنا معا الحملة الشرسة التي كانت تستهدف النظام وقتها وتصف البلاد بالعنصرية، هذه الحملة التي اختفت وأصبحت خبر كان بمجرد قيام النظام بتطبيع العلاقات مع إسرائيل !!
على الجميع إذا أن يدرس تصرفاته وأن يراعي نتائجها، كما أنه من الضروري أن نفهم أن هذا لم يعد زمن البروبغندا بشكلها القديم فنحن في عصر حرية الإعلام حيث بالإمكان الإقناع ونشر الأفكار بوسائل أكثر حرفية عن طريق تقنيات الاتصال، كما أن ثورة المعلومات الحالية التي تمكن فعلا من سرعة انتشار الشائعات، تحتفظ كذلك بالأصل وتمكن من معرفة الحقيقة وتمييزها من التحريف.