قراءة في مذكرات الدكتور حم ولد عبد القادر: وَقَفَاتٌ فِي: "مَحَطَّات رِحْلَتِي إلَى الطِّبِّ"..

خميس, 25/07/2024 - 19:27

وَقَفَاتٌ فِي: "مَحَطَّات رِحْلَتِي إلَى الطِّبِّ"..
مَكَّنَتْنِي زيارة دورية لإحدى مكتبات نواكشوط التجارية من اكتشاف طرح مذكرات جديدة، في كتاب صغير بعنوان: "محطاتُ رحلتي إلى الطِّبِّ" للطبيب العارف الحاذق الدكتور محمد حَمَّ ولد عبد القادر..
لِوَلَعِي بالمذكرات، وسابق معرفة "تَزِيدُ" بالكاتب، أخذتُ الكتاب دون تفكير، مع أن الكُتُبُيَّ المحترف ربما استشعر من ترجيعي للسعر استثقالا له، فعلل السعر قائلا: ريع الكتاب خصصه المؤلف لعمل خيري..
حجم الكتاب المكتوب باحترافيةِ تحرير الأطباء وقدرتهم على الاختصار المفيد، يُغري بالقراءة السريعة، يُعين على ذلك أسلوب جمع الوضوح والبساطة.
توقفت في هذه المحطات عند مضامين استبدت بي:
وَصْفُ التلميذ المراهق في مرحلة الإعدادية "أبْلُو"، في تلك الحقبة إلى حِقَبٍ تلتها وصفا: "كأنه هو"، وإذا نزعنا تسميات أحياء مدينة أطار، قد يجد كل تلميذ موريتاني مرَّ بتلك المرحلة نفسه في الوصف: <<هو في الغالب آرْوَيْكِيجْ يملك دراعة أو اثنتين وله سَرَّاحٌ من نوع أفرو ويشتري "اصْبُعْ" دخان بثلاث أواق أو اثنين بخمسة، يستمع إلى أغاني أم كلثوم وعبد الحليم، لا يفوت نشرات البي بي سي، وفرسنا الدولية، وفي نهاية الأسبوع يهبط جنوبا نحو حي كنوال أو يصعد شمالا نحو أمباركه واعماره في جولة "تسديره" تنتهي في ساعة متأخرة ثم يعود منهكا ليجد لقمة باردة من الكسكس، يتناولها ثم ينام..>>.
وَالِدَةٌ عظيمة حاضرة بقوة، متقدمة ذهنيا على نساء زمنها، وراء وحيدها لتفرض توجُّهَه إلى المدرسة النظامية بدل سوق العمل خلافا لرغبة الوالد، وتفرض اختياره للشعبة المزدوجة، وسط تجاذب كبير، تحركه العواطف والتيارات السياسية، وقد ظهرت شخصية الوالدة في المحطات دون أن يستخدم الكاتب أساليب بلاغية من أجل ذلك..
من "المحطة صفر: أبْطِيحتْ الغَبْرَه" بين شنقيط وأمحيرث، حيث وُلِدَ 1968، تَنْتَقِلُ محطات رحلة الدكتور حمَّ إلى الطب من طفولة تماثل ظروفا وحياة عاشها معظمنا ـ مع خصائص آدْرَارِيَّة أطَارِيَّة مثل حضور ماعز أكْوِيرَاتْ وزريقه وزبدته، والدَّرَّاجَات الهوائية ومواسم الكيطنة ـ إلى مرحلة دراسية إعدادية وثانوية ناجحة، تنتهي بالباكلوريا..
في لحظة النجاح متفوقا في الباكلوريا يذكرنا بأسلوب يستبطن التندر، بفكرة كانت دوما مخرجا حسنا للفاشلين دراسيا وعائلاتهم، وهي فكرة "سرقة النقاط" فأورد ـ وكأنه يعزو للعائلة ـ أنه "لو لم يسرق مصحح امتحان الفرنسية نقاطي لكانت النتيجة أحسن"، ويضيف في تهكم وتندر آخر: "وحسب إحدى الروايات فإني كنت الأول على المستوى الوطني"، وما تزال فكرة "سرقة النقاط" حاضرة في جوانب عديدة من حياتنا، ومتنفسا أبديا لمن لم ينجح..
لَمَّحَتْ محطات الرحلة باستنباطِ ذِهْنٍ مُحَايِدٍ إلى التأثيرات السلبية لاجتياح التيارات السياسية لمؤسسات التعليم الثانوي في تلك الفترة، وذلك ثلاث مرات على الأقل: في معرض الإشارة إلى إصلاح التعليم 1977 ـ 1978، وعند ذكر مسابقة دخول الإعدادية، وفي معرض إشارة إلى إضرابات ثانوية أطار، "عام السبتي"..
اسْتَطْرَدَتْ المحطات ذكرا حميدا للرجل الأطاري النبيل شيخ الكرماء هَمَّدِّي ولد محمود، بنبذة جميلة، كَأَنَّها خارجة عن سياق المحطات، لولا الشعور الذي تعطيه للقارئ بأن ذكر هذا الرجل فرض عين على كل أَطَارِيٍّ أصيل..
بعد تعثر دراسي في دكار، تمر الرحلة بمحطات النجاح في تونس، التي تنتهي بشهادة طبيب متخصص في مجال أمراض النساء والتوليد، وبين ثنايا كل ذلك سرد لمواقف عديدة، مع ملاحظات عن جميع مناحي الجو المحيط، بإيراد كثير من التفاصيل..
يستحضر الكاتب في إحدى المحطات الخوف الذي لازمه في الطفولة من المستشفيات، فقد كان حين يمر بمحاذاة مستشفى أطار يجعل شخصا أو اثنين بينه مع المستشفى، وقد تقرر في كتاب من الله سبق أنه سيقيم بالمستشفيات..
عشتُ شيئا قريبا من هذا: تَطَلَّب تحضير ملف منحة في نهاية التسعينيات أن أحصل على شهادة تبريز، فأرْشِدْت إلى وكالة الجمهورية بقصر العدالة الكبير في نواكشوط، فَمَلَأَتْ لي كاتبة شكلية عندها، وطلبت مني الدخول إلى مكتب وكيل الجمهورية لتوقيعها، وعند بابه رَهِبْتُ دخول المكتب، ورجعت إليها، فقامت متثاقلة بالمهمة، ثم شاء الله بعد ذلك أن أدْخُل ذلك المكتب فترتين مجموعهما 14 سنة تقريبا..
ثم تأتي محطة الممارسة العملية الميدانية لمهنة الطِّبِّ، وأهمها "مدرسة" المركز الصحي في السبخة من سنة 2002 إلى 2017، فَيُصَوِّر الكاتب مشهدا من المشاهد الموريتانية الخالصة... لتنتهي تجربة رائدة بانتكاسة..
تميزت المحطات بالتوثيق الكامل لرحلة طبيبنا بالوثائق، من وثيقة شراء العائلة لقطعة أرضية في أطار، مرورا بكشوف الدرجات، وحتى بطاقات الدخول في الأقسام مع افتتاح الأعوام الدراسية، فأوراق الاختبارات، إلى شهادات التخصص.. 
سيفرض عليك السياق أن تتوقف عند قرار الرجل سنة 2017 مغادرة الوظيفة العمومية عن طريق التقاعد المبكر اختيارا، ليتفرغ للعمل الخصوصي والعمل الخيري، في حالة قليلة الحدوث لدى أهل الجمع بين القطاعين العام والخاص..
في آخر المحطات: "من هنا وهناك" يورد المؤلف مواقف سجلها أثناء ممارسته المهنية، تأتيك بالطريف والمضحك والمحزن في نفس الوقت، ولعل الجامع بينها روح الأدب والظرافة التي التقطت وسجلت بها، تجد فيها مخاطبة سيدة للطبيب الأخصائي بحسانية تحمل رغم اللفظ الجارح براءة فطرية: "جَيْت لهذا الطَّبْ أنْدُورْ أخصائي وقالوا لي إنَّكَ أنْتَ هُوَّ أخَوْصَصْ ألِّ هَوْن"، ثم يلتقط لك حادثة اختيار قِطَّة لمكتبه دون غيره من المكاتب لتلد فيه، وكأنها "مغموزة عليه" يقول لك..
كَتَبَ المؤلف أفكاره وخواطره بلغة عربية أنيقة زادها بهاءً إدراج مضطرد لكلمات حسانية أصيلة، تأتي في الوقت المناسب معبرة بدقة عن الفكرة، ليجعلك تتذوق معه دقة تعبير اللغة الأم عن الفِكْر، إنْ قبل البعض تسمية الحسانية لغة..
يثير إدراج الحسانية أثناء الكتابة بالفصحى جدلا، ويرفضه البعض، شخصيا أتذوقه، واستخدمه، وقد زادني الدكتور حَمَّ اقتناعا به..   
ضمنيا سلَّم لنا أستاذ الأجيال أمينُ العربية الشيخ الخليل النحوي الجمع بين الفصحى والحسانية كتابة، فقد صَدَر كتاب "محطات رحلتي إلى الطِّبِّ" بمقدمة ضأنية تقريظية رائعة له، سوَّغَت ـ بنقاش ثري ولطيف للعلاقة بين الطب والأدب ـ قراءة المحتوى بنهم، كما صَدَر بمقدمة أخرى رصينة للكاتب الصحفي والناشط الحقوقي عبيد إميجن الآبنوسي..
عَلَى ذِكْر الاسم حَمَّ: نَقَلَ الشيخ العلامة محمد اليدالي رحمه الله في كتابه: "خاتمة التصوف وشرحها" في نهاية كلامٍ على فضل وبركة اسم محمد صلاةُ ربي مع السلام على صاحبه، عن الشيخ الرَّصَّاع أن الشيطان لما رأى البركة في هذا الاسم أراد إزالتها لِيَحْرِم هذا الفضل، فحبَّب إلى أهل المشرق التسمية بنحو عز الدين وشمس الدين، لما رأى فيهم من حب الرياسة والفخر، ورأى في أهل المغرب التواضع وترك الفخر، فأوقعهم في الألقاب المنهي عنها، فقالوا لمحمد حَمَّ.../ خاتمة التصوف وشرحها ـ تقديم وتحقيق الأستاذ الراجل أحمد سالم اليدالي ـ الجزء الأول ـ ط الأولى 2022 ـ دار جسور عبد العزيز ـ صفحة 68..
قراءة ممتعة..
أ. ع. المصطفى