يستحوذ التنقيب عن الذهب وتحقيق الثراء سريع على اهتمام الموريتانيين هذه الأيام بعد أن نفخ في صور قيامة الذهب إثر موافقة الحكومة على الترخيص له وإعلان عدد من المنقبين الأفراد عن حصولهم على كميات هامة من الذهب بمجهود بسيط.
وبسبب الإقبال على التنقيب عن الذهب في الفيافي الموريتانية البعيدة، انخفضت الحركة داخل العاصمة نواكشوط، وانشغل الناس في الأسواق وحافلات النقل الحضري وداخل صالونات السياسة، بالحديث عن الذهب بين من يعتبر الذهب نعمة من الله على هذا الشعب الفقير، ومن يكذب قضية الذهب ويعتبرها مزحة إبريل/نيسان المشهورة.
وبينما أدرجت أوساط في ظهور المعدن النفيس ملقى بين حجارة إنشيري ضمن «بركات فخامة الرئيس»، تؤكد أوساط المعارضة «أن الأخبار المتعلقة بوفرة الذهب وترخيص الحكومة له، مجرد خدعة دبرتها أوساط النظام الحاكم لشغل الناس عن مشاكل الغلاء وعن الاحتجاجات السياسية المزعجة».
وتدخل مجلس الفتوى والمظالم الموريتاني في خضم قيامة الذهب، فأكد في فتوى نشرها أمس أن «المعادن من حيث هي يعود النظر فيها للإمام حتى ولو ظهرت في ملك خاص، فهو الذي يأذن في استغلالها أو يمنعه تبعا للمصلحة العامة، فلا يجوز البحث في أماكن تمنع السلطة العامة البحث فيها لكونها منحتها لجهة أخرى، أو تدخرها للمصلحة العامة».
وأضاف أن «كل من حصل على خمسة وثمانين غراما فأعلى من الذهب الخالص تجب عليه الزكاة فورا، فلا ينتظر مرور الحول، وقدرها %2,5 أي ربع عشر جميع ما حصل عليه بالغا ما بلغ ومهما بلغت كلفة الاستخراج». وإلى ميدان تصديق وتكذيب وجود الذهب وانتقاد جمركة الحكومة لأجهزة الكشف، وجه المدونون والكتاب والمغردون اهتماماتهم فنشرت مقالات عديدة حملت عناوين منها «الذهب …الفرقعة والعادات الاجتماعية»، و»قف الذهب»، وقشور الذهب».
واعتبر السفير مختار ولد داهي في معادلة نشرها تحت عنوان «حمى الذهب: أرقام و شُبَهُ أوهام»، أنه نظرا لأهمية و«وَاعِدِيًةِ»الأرقام الاقتصادية لحمى الذهب الحالية (6 مليارات و800 مليون عائدات للخزينة، 68000 فرصة عمل و51 مليار أوقية لإنعاش الدورة الاقتصادية)، فإن الأمر يستوجب بيانا حكوميا بمجلس الوزراء- لا مجرد تصريح من أحد المدراء- حول حقيقة «الذهب السطحي» وذلك خشية أن يصاب الشباب الحالم بصدمة خيبة الأمل».
وقد علق الكاتب محمد محفوظ أحمد على تعامل الحكومة مع هذه الظاهرة، فأكد «أن تعامل الحكومة مع قضية الذهب تعامل انتهازي عشوائي في غاية الغرابة، فالمفروض أن تتريث الدولة وتدرس الموضوع من حيث جدواه أولا ومن حيث تبعاته ثانيا، فإن كانت له جدوى نظمته ووضعت قوانين صارمة لحفظ الأمن ومصالح الأفراد وتنظيم العملية برمتها، وإن لم تكن هناك جدوى بصرت الناس وحذرتهم من هدر أموالهم وجهدهم».
«لكن أول شيء فكرت فيه الحكومة حين فاجأتها هذه القضية، يضيف، هو كيف تجني منها أكبر مبلغ ممكن، قبل أن تعرف حقيقة الأمر فضلا عن سن قوانين فيه، لقد انطلقت من عقلية الأفراد نفسها، بل عقلية انتهازية أقرب إلى أفعال عصابات المافيا، فبادرت لفرض ضرائب ومكوس متعسفة ومبالغ فيها على الأجهزة ثم على الأفراد وأكثرهم من الفقراء الذين لا يملكون ثمن الجهاز فضلا عن جمركته الخيالية التي تعادل ثمنه أو تفوقه… ناهيك عن الضريبة المجحفة».
وأضاف الكاتب «لقد كان المفترض أن تكون الضرائب على الغلة نفسها، فبما أن المنقبين ملزمون بالتصريح بما يحصلون فإنه تتم جباية رسوم مناسبة على قدره… تماما كما تفعل الدولة مع شركات التنقيب الكبرى الأجنبية، أما إذا لم يحصل المنقب على حظ، فلا يتعرض لخسارة هذه الأموال مع ضياع جهده ووقته وماله في تنقيب لم يجد شيئا».
وناقش الكاتب الدكتور أبو العباس ابرهام قضية الذهب من زاويا أخرى، فأكد في تدونية له أمس «أن ثمة طبقتين استعادتا إلى حدّ الآن استثماراتهما في وهم الذهب: الدولة الضريبية والعمل اليدوي المأجور، فأما الدولة فقد أخذت سهمها لم ينقصه شيء بالجمركة وبالضرائب الأخرى، وأما العمل المأجور فيأخذُ كفافه المألوف».
وأضاف «في عمومها لا تربح الطبقة الوسطى في هذه العملية، وإن كان بعضُها يربح في خصوصه. ولطالما سخر جورج كارلين من أن الطبقة العليا تنتزع المال من الطبقة الوسطى عن طريق إخافتِها من الطبقة السفلى».
وقال «سارعَت المؤسّستان الفقهيتان، الموالية والمُعارضة بالبلد (إمامة «الحرم السعودي» و«مركز تكوين العلماء») إلى الإسراع في مطالبة المنقبين السطحيين بسهم الزكاة من الذهب، وقد أظهر الفقهاء، جزاهم الله خيراً، معرفة كبيرة بحقِّ الأمة في ثرواتِها الباطنية وبالتفاصيل الضريبية الدقيقة، وكانوا ينقِّبون في الوقت نفسه عن ما قاله الإمام مالك وسحنون وأبو زيد القيرواني عن الأمر، ولسوء الحظ لم يُطبِّق هؤلاء الفقهاء هذا العلم على الشركات التنقيبية التي تأكل ثروات الأرض بأقل تكلفة في التاريخ، مرةً أخرى: الفقيه يُحالِف رأس المال الشرائكي ويمكِّسُ رأس المال الفردي، إنّه فقيه متناسِبٌ مع العصر النيوليبرالي».
«تاريخياً، يضيف، نكصت القبائل الصنهاجية والعربيّة عن الاستثمار في الذهب، وما سُميّ بعصر الذهب في موريتانيا كان استثمار القبائل الزناتية والمجموعات الإباضية والشيعية واليهودية، وكان رجال الصحراء يستنكفون عن تجارة الذهب، لاعتبارات شبه دينية، اليوم لم تعد هنالك حرمة في استثمار الرجال في الذهب، كان الذهب مفارقاً فكان دينياً، صار الذهب محايثاً فانتفت دينية مفارقته، الذّهب هو أكبر معلمن».
وتحدث الكاتب عن شعوبية الذهب فأوضح «أن حمى الذهب لم تخل من شعوبية: فقد أرادت الحمية البيضانية إظهار التفوق البيضاني الطبيعي دون الاستعانة بالدولة بالقول إن تفوق البيضان في حمى الذهب يعني تفوقهم العرقي، وأنهم سيفوزون في أية مسابقة ثرائية طبيعية. نسيّ عصبويو البيضان أن حمى الذهب هي مغامرة لا تخلو من علاقات القوى في رأس المال والمركوب والآلة والأداة والنفاذ إلى المكان وإلى الدّيْن وإلى المعلومات، هذه الخواص ليست متساوية طبقيا».
عبدالله مولود ــ القدس العربي