د. البكاي عبد المالك/ وزير سابق
ما بعد خطاب التنصيب
غداة تسلّم الرئيس الموريتاني لقيادة الاتحاد الإفريقي يحضرني قول الشاعر:
أتَتْه الرئاسة منقـــادة إليه تجرّر أذيالهــــــا
فلم تكُ تصلح إلا لــه ولم يكُ يصلح إلا لها
نبارك لهذا الرجل صاحب الأخلاق الرفيعة والدبلوماسية الهادئة والميول السلمية التوافقية في الداخل والخارج قيادة الاتحاد الإفريقي.
فهنيئا لفخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وهنيئا لموريتانيا رئاسة الاتحاد الإفريقي. هذا الأمر يسعدنا جميعا كمواطنين موريتانيين نحب أن نرى بلدنا يعود إلى واجهة الأحداث من جديد، يحضر فيُشكر ويغيب فيُذكر.
السنغال منا ونحن منه!!
بدون مقدمات وقبل عودة الرئيس: هاتان قاعدتان ذهبيتان في المأمورية الإفريقية للرئيس غزواني:
القاعدة الأولى: هي أن الشقيقة السنغال، بفعل التطورات المتلاحقة التي تشهدها حاليا، هي المسرح الأهم محليا وإقليميا ودوليا، وهي مفتاح نجاح المأمورية الإفريقية للرئيس غزواني، وربما تصبح في نهاية الأمر هي المقياس الأكيد لقياس نجاحها أو فشلها
القاعدة الثانية: هي عدم نسيان ما تأمر به القاعدة الأولى!!
لماذا أصر هاري ترومان في عام 1949 على إطلاق مشروع "التنمية الاقتصادية" لدول أوروبا الغربية؟ لم يكن ذلك في الواقع حُبّا لـ "للقارة العجوز"، وإنما لتتمكّن الولايات المتحدة الأمريكية المتطلعة للسيطرة على العالم من وضع يدها على أسواق الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة في أوروبا، ومن تفادي سقوط الدول حديثة الاستقلال في فلك الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي الآخذ في التوسع آنذاك.
تلك هي نفس الأسباب التي تدفع الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن لدفع مليارات الدولارات في الحرب الأكرانية حفاظا على القطبية الأحادية، ودفاعا عن هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على القرار في العالم، ولوأد الأطماع التوسعية لروسيا فلاديمير بوتين، كل ذلك من أجل شيء اسمه الأمن القومي الأمريكي!!
فلم تكن سلسلة جبال القرم بشهوقها ووعورتها، المنتصبة على بُعد مئات الآلاف من الكيلومترات من أقرب نقطة للحدود الخارجية لأمريكا ولآخر نقطة حدودية في حلف الناتو، كافية لضمان الأمن القومي لأمريكا، ولدفع عودة الخطر "الشيوعي" أو عودة المكبوت الإسلامي لدى تلك الشعوب المسلمة الأصلية، التي قتلت الستالينية فيها ذلك الشعور المكبوت من قبل، لكنها لم تجتث الأساس ولم تنتزعه من جذوره.
كمسلم وعربي قد يكون الشعور بما يحدث الآن في غزة أقوى وأكثر إلحاحا، قلوبنا جميعا معلقة في غزة وبما يحدث لشعبنا من تنكيل وتقتيل وتشريد على مرأى ومسمع الجميع، لكن كمثقف وأكاديمي، فإن المنطق يفرض علينا ترتيب الأولويات، لا بد أن نؤمّن وجودنا ونثبّت كياننا أولا. ذلك هو الشرط القبلي لكل ما عداه.
نحن والسنغال على "منصة" واحدة، أعني على سفينة واحدة، لا ينبغي السماح بتعطّلها أو تعطيلها أيا يكن الفاعل وأيا تكن الأسباب، خصوصا في هذا الوقت بالذات، لأن ما يصيبهم في الصميم يصيبنا بالتأكيد. الحفاظ على السفينة عائمة وطافية فوق السطح هو دليل سلامتنا وبقائنا، وهو كذلك شرط ضروري من شروط عمل المنصة، وما يُنتظر منه من رفاه وتقدم لشعبنا.
دعاة نظرية الانتشار الحضاري يؤكدون إمكانية انتقال الفوضى بالعدوى، تماما مثلما تنتشر الحضارة بتأثير ثقافات شعوب الجوار، والأمثلة قريبة العهد جدا منّا، لا تزال ذكراها حية وماثلة للعيان في مرحلة ما سُمي منذ سنوات قليلة بالربيع العربي.
الآن على ما يبدو حان دور الربيع الإفريقي: سوء الحكامة، سقوط الأصنام وعبَدتها في الآن نفسه مع انعدام البوصلة، وفشل سياسات التنمية وغياب العدالة وسوء التوزيع وضعف المقاربات الأمنية... هي أبرز عناوين المرحلة إفريقيا.
لذلك تصبح المهمة الأولى لزعيم الاتحاد الإفريقي هي إنقاذ السنغال من مخاطر التفكك والحرب الأهلية..إنقاذنا نحن من خطر العجز عن تعويم السفينة بعد جنوحها وإغراق المنصة.
الرهان الحقيقي القائم الآن بغض النظر عن مقتضيات الحفاظ على المصالح الوطنية العليا وعن استراتيجيات الأمن القومي للبلد في ظل التداخل الجغرافي والعرقي والثقافي الشديد للبلدين الجارين، هو تحدى الريادة والزعامة لبلدنا ولقيادته تحديدا لجرّ السفينة الإفريقية المترنحة إلى بر الأمان، مع تراجع الديمقراطيات العتيقة في القارة وفقدان الثقة فيها وسقوط الأصنام وعبدتها ومسار انحلال الدول المتواصل في شبه المنطقة. ولأن الطبيعة تخشى الفراغ، فإن بلدنا هو المرشح لاحتلال تلك المكانة وملء الفراغ الحاصل في الساحة الدولية الإقليمية من جراء تلك الظواهر السلبية التي أشرنا إليها، فلم نكن نُذكرقبل الآن، لا في عداد الديمقراطيات العتيقة ولا من عبدة الأوثان.
ومع ذلك هناك عناصر إيجابية للتفاؤل بإمكانية قيام محور جديد في المنطقة تمثله موريتانيا والسنغال بفعل عامل الاستقرار والدفعة الاقتصادية القوية التي يُنتظر أن يكتسيها ذلك المحور من جراء الاستغلال المشترك للغاز، والثقة التي تحظى بها بلادنا لدى الشركاء الدوليين في الوقت الحالي، ما سيؤهل ذلك المحور بالتأكيد في حال قيامه، لقيادة قاطرة العمل الدبلوماسي في القارة وعبر العالم.
صحيح أن الصورة النمطية لدى السنغالي عن الموريتاني البدوي غير المهتم كثيرا بمظهره، قد تشكل عائقا نفسيا أمام ذلك المسعى، الأمر الذي ينعكس بين الفينة والأخرى في بعض التصريحات والإيماءات، لكن هذه الصورة النمطية توجد حقيقة في مخيال السنغالي العامي وليس السواد الأعظم من النخبة السنغالية الواعية، التي تكنّ احتراما عميقا للشعب الموريتاني وللدولة الموريتانية، وتدرك بوعي منها وبدون وعي أحيانا، عمق العلاقات التاريخية والروحية بين البلدين والشعبين.
وتوجد في المقابل صور نمطية مماثلة لدى المواطن الموريتاني البسيط عن السنغالي، لكنها على كل حال ظلت في أغلبها مرتبطة بمشاعر التجييش الناجم عن الاحتقان الشعبي الذي ولّدته أحداث 89 الأليمة وما تلاها محليا من تداعيات. ولكن هذه الصورة النمطية قد بدأت لحسن الحظ في التلاشي عند الأجيال الجديدة، التي لم تعش تلك النكبة، ولدى النخبة المسؤولة، وهذا هو المهم.
من هنا تكتسي المبادرة بالإسراع في معالجة الأزمة في السنغال أهميتها وحيويتها في العمل الدبلوماسي للقيادة الجديدة للاتحاد الافريقي. فمثل ذلك المسعى لن يقضي فقط على تلك الصور النمطية الصادقة الكاذبة، بل سيكرس بالأحرى ريادة موريتانيا ويعيدها إلى الواجهة الدولية من جديد في ظل العلاقة الثنائية بين البلدين في ثوبها الجديد، مثلما كانت خلال العقد الأول بعد الاستقلال.
وهذا يعني أن المشروع المشترك المتعلق باستغلال الغاز بين موريتانيا والسنغال لن يؤسس فقط لشراكة بعيدة المدى ووحدة المصالح الاقتصادية، ولأهم قطب اقتصادي قد ينشأ في شبه المنطقة مستقبلا فحسب، بل هو تكريس لمسار طويل من الجوار والتعايش والأخوة متعددة الأبعاد. ولولا الخوف من الإطالة لذهبت في التحليل إلى مدى أبعد..
الملف الثاني الذي يفرض نفسه في لائحة الأولويات لدى رئيس الاتحاد الإفريقي، هو كما ظهر جليا في خطاب التنصيب الذي ألقاه في أديس أبابا، هو ملف القضية الفلسطينية خصوصا في ظل الحراك الدولي المتزايد لإيجاد تسوية شاملة للملف، ولشعور القوى العظمى بالحاجة إلى التكفير عما اقترفته في حق الشعب الفلسطيني بعد وعد بلفور واتفاقيات سايس بيكو وما نجم عنها، وبعد أحداث السابع من أكتوبر الماضي وتداعياتها.
الملف الثالث والأخير الذي يفرض نفسه على أجندة رئيس الاتحاد الإفريقي، هو كما ورد في خطاب التنصيب، ضرورة إعادة التوازن إلى الهيئات الأممية التي تمتلك القرار الدولي، وخصوصا مجلس الأمن.
المفارقة التي نعيشها اليوم من جراء ذلك الاختلال الذي بات يطبع الهيئات الأممية بسبب استفحال القطبية الأحادية هو خنق اليونسكو والأنوروا وقطع المساهمات والمساعدات عنهما في مقابل السباق المحموم في الدعم عسكري اللامشروط لكيانات ودول هي أكبر من يزعزع الاستقرار ويمارس القتل وينشر الرعب في العالم!!
هذا الأمر في تقديرنا هو أكبر دليل في الوقت الحالي على أن العالم دخل مرحلة خطيرة من انعدام البوصلة وانقلاب المعايير تحتاج إلى تنسيق الجهود في القارة السمراء لتعزيز السلم في العالم والقضاء على ازدواجية المعايير السائدة في القرار الدولي الوقت الحالي.
وفي تقديرنا أن الظروف السائدة في المأمورية الحالية لرئيس الاتحاد الإفريقي والأجواء التي تسود الآن بعد أحداث السابع من أكتوبر في الشرق الأوسط، وانكشاف عيوب القطبية الأحادية وضياع القرار الأوروبي، تبدو مناسبة للشروع في حملة دبلوماسية دولية الغرض منها إعادة التوازن إلى المؤسسات الدولية الفاعلة وخصوصا مجلس الأمن، من أجل إعادة تنظيمه بإضافة عضو دائم للقارة الإفريقية بقيادة جنوب إفريقيا أو مصر.
هذا الأمر هو ما سيمكّن القارة الإفريقية في ظل الرئاسة الموريتانية، تحت قيادة فخامة الرئيس وبمبادرة منه من لعب دور رائد في هذا المجال: وما ضرّنا أنّا قليلٌ عديدُنا...
فقد كان لهذا البلد الصغير في مضمار الناتج القومي الإجمالي والمبادلات حول الكوكب، كبير الأثر في مضمار العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد الاستقلال، هذه التجربة يمكنها أن تتكرر الآن بفضل التغيّرات الجيوستراتيجية التي يشهدها العالم في الوقت الراهن والتي تصب كلها في صالح التغيير، وبفضل الدبلوماسية الهادئة والاحترام الذي يحظى به الرئيس، إذا ما أحسنا جميعا التعامل مع تلك المتغيرات الجديدة.