تَأَمُّلٌ فِي مَسَارٍ مِهَنِي.. قراءة أولى..
وسط الزحمة المعتادة في العمل اليومي، وأثناء ذروة منها عارضة، فاجأني اليوم مُعَاوني وزميلي كاتب الضبط Kader Dada بمناولة كتاب..
بنظرة خاطفة تبينته: مذكرات الْخَالْ رجل الدولة معالي الوزير محمد ولد النَّاني، وكنت قرأت قبل أيام قليلة خبرا عن توقيعه ونشره..
لم أتبين بعدُ إن كان تسليم الأستاذ عبد القادر للكتاب عن هدية أو إعارة، ومع ذلك، ورغم ساعات العمل الطوال، وما يتعاورها من مشاغل انهمكت بعد الدوام مباشرة في قراءته، وأحيانا أفعل في ساعات الراحة..
عندي أن المذكرات هي "مرافعة" رجل الدولة في محكمة الحياة أمام من تولى من شأنهم العام شيئا، وقد وجدتُ مرافعة..
قدَّم للكتاب بمقدمة مكتنزة معالي الوزير الأول الأسبق ورجل الدولة سيد محمد ولد ببكر، وترجمه عن أصل فرنسي الكاتب اللوذعي الإداري الأديب محمد فال ولد عبد اللطيف، ترجمة لا يفطن لها من لم ير مكتوبا أنه مترجم..
يرافع معالي الوزير محمد ولد النّاني بشكل رفيع عن مسار مهني متميز، مكنه من المشاركة بشكل فعال وبَنَّاء في بناء وتنمية بلاده، بأمانة واستقامة أقام عليها الدليل..
القيمة المضافة للكتاب تتمثل في أن معالي الوزير محمد ولد النَّاني لم يتحدث إلينا وحده، بل جعل معالي الوزير الأول سيد محمد ولد ببكر رجل الدولة الكتوم يخطو خطواته الأولى نحو "البوح" ليس شعرا هذه المرة، بل شهادة، وإن بتحفظ وبيسير أيضا حتى الآن مما شهد عليه إبان المسؤوليات..
في التقديم لمؤلفات الغير "تسيل الراحلة" أحيانا بالمقدِّم، فيذهب في الاستطرادات يمينا وشمالا، ومع أني لم أكن أتوقع ذلك من صاحبنا الذي يحب أن يظل في الأذهان الإداري المالي لا المثقف الأديب، فقد بدأت قراءة المقدمة بأمل أن يقع في شيء من ذلك..
كاد الأمل أن ينقطع مع المرور في تتبع مضمون الكتاب على جولة من جولات مفاوضات النزاع في الصحراء الغربية، حين رأيت معالي الوزير الأول يلتزم الكف عن الاستطراد، ويعرف من يعرفه مستوى اطلاعه على ذلك الملف..
فجأة تحقق الأمل: في فقرة عن الاستقامة "وهي مطلب من متطلبات الحياة العامة" والكلام لمعالي الوزير الأول سيد محمد ولد ببكر معلقا على حادثة رواها المؤلف حول تعامله مع ما سماه "مقترحات مالية منحرفة" قدمها إليه مواطن (كريم) من أبناء وطنه عام 1989 في كوتونو، استطرد المقدم وقائع من شهادته على رؤساء لدولتنا عاشرهم..
في قراءة المذكرات يطيب التوقف عادة عند المشاهد الجانبية فيها، خاصة إذا كانت القراءة سريعة وفي بدايتها..
من المشاهد الجانبية في المذكرات: الموقف الصارم المتحفظ الذي نقله معالي الوزير محمد ولد النَّاني عن رجل الدولة الراحل أحمد ولد مِنِّيهْ رحمه الله تعالى، وهو رئيس وفد موريتانيا إلى جولة مفاوضات في المملكة المتحدة حول نزاع الصحراء الغربية..
في الموقف: أنه رغم وجود جوازات سفر دبلوماسية وتأشيرات سارية للمملكة المتحدة، بحوزة أعضاء الوفد الموريتاني فإنهم عند تقديم جوازات سفرهم من أجل إتمام إجراءات الدخول سأل ضابط الهجرة رئيس الوفد أحمد ولد منيه رحمة الله عليه عن الغرض من الزيارة فردّ: "اسأل الأمم المتحدة"، وكان كلما سأله يلتزم نفس الجواب، راجع الضابط رئيسه بحيرة فاصطحبهم الأخير إلى مكتب آخر، وطرح نفس السؤال، فتلقى من رئيس الوفد نفس الجواب، وبعد انسداد الموقف تدخل عضو الوفد المؤلف محمد ولد النَّاني ليشرح مهمة الوفد، معلقا تعليقا طريفا: "لا أعتقد أني أفشيت سرا من أسرار الدولة"..
وينقل المؤلف هذا الموقف بثناء كبير على المرحوم أحمد ولد منيه فيصفه بأنه مثال للحكمة والتكتم والصرامة والرزانة، وأنه من الصعب أن يبلغ أحد في هذا المجال ما بلغه..(صفحتان 169/170)..
من المشاهد الجانبية اللطيفة في الكتاب، في معرض استطراد يتحدث فيه المؤلف عن العاصمة الأردنية عمَّان يذكر أن أحد أحيائها يحمل اسم "لويبده"، ويعلق: "وهو نفس الاسم الذي تحمله قرية في وسط إينشيري لها دلالتها الخاصة بالنسبة لي".. (صفحة 172)..
مشهد جانبي آخر: عنوان الكتاب: "تأمل في مسار مهني"، وقد لاحظت أن معالي الوزير الأول سيد محمد ولد ببكر ذكره في بداية تقديمه باسم: "رجوع إلى مسار مهني"، ولعله مشروع اسم تم العدول عنه..
ومع احترام اختيار المؤلف فإن العنوان في التقديم "رجوع إلى مسار مهني" أحسن في رأيي..
كان بودي أن أكتب أكثر عن مضمون هذه المذكرات الغنية الأنيقة، ولكن الوقت والتعب يمنعان من ذلك الآن، ولعلي استكمل القراءة بِنَفَسٍ أعمق، ثم أعود..
خالص الشكر لمعالي الوزير محمد ولد النَّاني على هذه المرافعة الرفيعة، وأسال الله له طول العمر في صحة وعافية..
مُبَارك فوز منتخبنا الوطني الليلة، وتأهله، وبه أهنئ الجميع..
القاضي أحمد ولد المصطفى وكيل الجمهورية بنواكشوط الغربية