بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
(ومكَروا مكْرا كُبَّارا)
لا شك أن العقيدة التى جاء بها موسى وعيسى هى العقيدة التى جاء بها إبراهيم ثم محمد عليهم جميعًا الصلاة والسلام.
فالرسل والأنبياء كلهم على دين واحد وملة واحدة هى التوحيد والإيمان، وشرائعهم تختلف بحسب الزمان والمكان. فالثابت هو المعتقَد، والمتحوِّل هو الشرائع.
قال تعلى: (شَرَعَ لَكُم منَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)،
وقال جل من قائل: (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
فالدين الذى شرع الله جل وعلا لجميع الرسل والأنبياء دينٌ واحد، وملةٌ واحدة يحرم التفرق والاختلاف فيها، بخلاف الشرائع والأحكام فإنه
لا حرج فى التفرق فيها. قال تعلى: (لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعةً ومنهاجا).
ولكن الشرائع كلها منسوخة بشريعة الإسلام شريعةِ محمد صلى الله عليه وسلم.
فقد نُسخت بها، وانتهى أمَدُها، وانقرض المخاطَبون بها، لأنها كانت موجهةً إليهم وحدهم دون غيرهم فى زمان مخصوص، ومكان مخصوص. وبقيت شريعة الإسلام مهيمنةً على كل الشرائع، لأن خطابها مُوَجَّه إلى الناس كافة فى كل زمان ومكان من يوم بعثة النبىّ صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وكل ما عداها من الشرائع فهو شرعٌ منسوخ باطل يكفر من تمسك به، أو دخل فيه، أو حَكم به، أو تحاكم إليه بإجماع المسلمين.
وهذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فمن أنكره أو شكّ فيه فهو كافر حلال الدم والمال.
قال تعلى: (إن الدين عند الله الإسلام)، وقال جل وعلا: (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين).
وثبت فى صحيح مسلم أن النبىّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "والذى نفسى بيده لا يسمع بـى أحد من هذه الأمة، يهودىٌّ ولا نصرانـىٌّ، ثم يموتُ ولم يؤمن بالذى أُرْسِلتُ به إلا كان من أهل النار".
فالنبوَّات والرسالاتُ السماوية به قد خُتِمت، والملة به قد أُكْمِلت، والنعمة به قد أُتِمّت، والإسلام الذى جاء به هو الدين الحق الذى ارتضاه لنا ربنا دينا وشِرعة ومنهاجا وصراطا مستقيما، وهو الدين الذى لا يقبل الله من أحد سواه بحال من الأحوال.
فمن العبث والغباء أن يسعى أعداء الإسلام اليومَ إلى محاولة خداع المسلمين بأن اليهودية حق وأن النصرانيةَ حق، وأنهما لم تُحرَّفا، أو تُنسَخا، وأن محمدا رسولٌ إلى العرب وحدهم، وأنه يمكن لَبسُ الإسلام بهاتين الملتين وخلطُه بهما باسم الإنسانية والتعايش السلمىّ، وأن هذا الخلط بين الأديان هو صميم ملة إبراهيم عليه السلام! وأنه هو النهج الأوحد الذى يقود إلى السلام العالمـىّ والإخاء والرخاء والرفاهية والازدهار، وأنه هو الذى سيجنِّبُنا صِدَام الحضارات.
إنه من السذاجة بمكان محاولة إقناع المسلمين بأن ما عليه قِسِّيسو الفاتكان وحاخاماتُ اليهود هو المحجة البيضاء التى كان عليها أبو بكر وعمر وعثمان وعلىٌّ وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ وخباب بن الأرَتّ وحمزةُ بن عبد المطلب وخالد بن الوليد رضى الله عنهم أجمعين.
إن الذين يحاولون تقريبَ هذا الدين الحنيف من ديانات الكفر، أو دمجَه فيها، وصَهْرَه فى بوتقتها إنما يضربون فى حديد بارد، ويلعبون لعبة قذرة مكشوفة لن تنطلى على عوام المسلمين فضلا عن خواصهم. فالراعى الذى ينعِق بغنمه فى شِعاف الجبال لن يقتنع بأن دين بابا الفاتكان ودينَ نتنياهو ـ مثلا ـ هو الدين المنزّل على قلب محـمد صلى الله عليه وسلم، ولن يفهم محاولة لَبْسِه بهما بأىّ حال من الأحوال.
كما أنه لن يَسْتسيغَ بفطرته جواز طباعة سور من القرآن مع نصوص من التوراة والإنجيل فى غلاف واحد، وإحلالَ هذا الكتاب أو الثالوث المركّب محلّ القرآن العظيم، ولن يستوعبَ بعقله البرىء صحةَ صلاةٍ جماعية بين أهل الملل الثلاث، أو المَغْزى من تشييد مسجد وكنيس وكنيسة داخل سُور واحد.
إنه لا يفوتنا أن الغرب قد خطط لنسف الإسلام والقضاء على حضارته منذ أمد بعيد، وأن هذه ليست هى المحاولةَ الأولى ولا الأخيرةَ، فقد حاول فى الحروب الصليبية من ذلك ما هو معلوم، حتى إذا تفككت الأمة، وترهَّل كيانُها، وضعُف تمسكُها بدينها الحقِّ أجْهَزَ عليها بعد أن بثَّ جَواسِيسَه ومُسْتَشْرِقِيه وأسَّسَ معاهدَه ومراكزَه لدراسة الإسلام ولغته وتراثه وطبيعة شعوبه وبلدانه.
وبعد أن جمع كل المعلومات اللازمة بادرت القُوى الكبرى فيه إلى احتلال العالم الإسلامىّ وبسْطِ هيمنتها عليه، ونهْبِ ثرواته، وتدجين شعوبه، وخلق بُؤَرِ توتر فى كل أرجائه وأقطاره قبيل الخروج من بابه والوُلوج من نافذته.
ولكى تضمَن هذه القُوى مصالحَها سعت إلى تكوين صنائعَ مستلَبةٍ دينا وفكرا وسلوكا فى كل رقعة من عالمنا الإسلامىّ، وفرَضت التعليم العلمانـىّ القائمَ على الفصل بين الدين والدولة، وحرية الاعتقاد والفكر، وبادرت إلى تكوين إعلام فاسد منحطّ يقود حتما إلى الانسلاخ من الدين والقِيَم والأخلاق، فآتت ثمارُه المسمومةُ إلى جانب التعليم المدنـىّ المذكور ما هو مشاهَدٌ من ضَياع الشباب وغَواية الفتيات بسبب ما بَث الأعداء عبْرَه من الإلحاد وثقافة الفِسق والعُهر والعُرْى، وأتاحوا خلالَه من الأفلام الإباحية والمسلسلات الخبيثة...
ثم جاء دور التقنيات المعاصرة والمواقع ومنصات التواصل الاجتماعىّ فأكملت ما بقى من إشاعة كل أنواع الفواحش والقاذورات والشذوذ بين أبناء المسلمين.
ولن ننسى دور المنظمات والنوادى فى التبشير ونشر التنصير .
ولم يكتف أعداء الإسلام بكل هذا، وإنما سعوا إلى تغيير المناهج والمقررات التعليمية فى العالم الإسلامـىّ، وعقدوا مع ذلك المؤتمراتِ والندوات لما يسمى حوار الحضارات، والحوار بين الأديان والثقافات، وتجديد الخطاب الدينىّ، وإقامة مؤسسات وهيآت مشبوهة تخدم خططهم الماكرة فى كل تلك المجالات.
ثم ما لبثوا أن نسفوا دولا وشعوبا مسلمة بأكملها، وأحدثوا فيها من التخريب والتدمير ما تَشيب له الولدان، فأضحت كأمسِ الذاهب، وأحدثوا "الفوضى الخلاقة" أو ما يسمى بالربيع العربـىّ فى أكثر البلدان العربية بالخصوص، وهم يسعون الآن إلى إحداث البلبلة فى بقية الأصقاع شرقا وغربا.
ثم بعد ذلك يَدْعُون إلى السلم والتعايش السلمىّ ومكافحة الإرهاب، وهم لا يعنون به إلا الإسلام، ويُغمِضون أعينَهم العُمْىَ أصلا عما يأتونه من إرهاب وظلم وبطش وتنكيل بالمسلمين فى كل مكان.
ونحن وإن كنا لا نقرّ الاعتداء عليهم أو على غيرهم من الأمم والشعوب - إذ قد نهانا الله تعلى عنه - فإننا مع ذلك لا نقبل منهم الكيْل بمكيالين، أو العملَ بازدواجية المعايير.
وبكل ما قدمنا -أعلاه - سهُل عليهم الآن بعد أن شكَّلوا بالتعليم والإعلام والبطشِ والترغيب والترهيبِ الرأىَ العام فى العالم الإسلامىّ وفق توجُّهاتهم ورُؤاهم، أن يفرضوا
سياسات التطبيع خوفا وطمعا، وأن يستخدموا من فقهاء الدين الإسلامىّ من يعملون ليلا ونهارا مع أحبار اليهود ورهبان النصارى وصُنّاع القرار فى الغرب ابتغاءَ التمكين لما يسمى بالديانة الإبراهيمية الجديدة بكُتبها ورُسُلها ومعابدها المشيدة لأداء الصلَوَات الجماعية.
وليست هذه آخرَ خُطاهم فى هذا المضمار، وإنما هى تمهيد لما هو أدْهَى وأمَرّ.
قال تعلى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)، وقال سبحانه: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).
فهم يعملون بكل ما أوتوا من قوة وأموال وهيمنة ونفوذ على تبديل دين الإسلام، وإقناع المسلمين بمِلَل الكفر ونِحَلِه، ويسعون إلى طمس معالم الإسلام والقضاء على أصوله وأحكامه، ومحاربة التوحيد والسنة، ودعم الشرك والقبورية والخرافة والبدعة فى كل مكان.
لكن مآلهم فى النهاية الهزيمةُ والإخفاق.
قال تعلى: (يُرِيدُونَ أَن يطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون)، وقال جل وعلا: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَالله مُتِمّ نُوره وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، وقال سبحانه: (إن الذين كفروا ينفقون أموالَهم ليَصُدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرةً ثم يُغلبون والذين كفروا إلى جهنم يُحشرون ).
***
يتواصل إن شاء الله تعلى.
الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديا