فى الآونة الأخيرة، حفل الإعلام الرسمي الموريتاني وبعض المواقع والصفحات الشخصية بما قُدِّمَ للرأي العام باعتباره "نجاحات دبلوماسية غير مسبوقة" حققها نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز.
وفى سياقا اجترار هذه المغالطات بمناسبة وبغير مناسبة، طالعت عنوانا عجيبا يقول:(( ولد عبد العزيز يقود أول حراك إفريقي لمواجهة المأمورية الثالثة))، فى إشارة إلى سفر الرئيس الأخير إلى جمهورية بوروندي.
وبغض النظر عن الطابع التهكمي المحتمل فى هذا العنوان، فإن من اللازم إنارة الرأي العام حول حقيقة هذه "النجاحات الدبلوماسية غير المسبوقة"، والتي سنتتبَّعها تنازليا فى ما يلي:
1- الوساطة البوروندية: لم يكن الرئيس الموريتاني إلا عضوا فى مجموعة من خمسة رؤساء يمثلون أقاليم القارة الإفريقية الخمسة: رئيس جنوب إفريقيا ( ممثلا للجنوب)، الرئيس السنغالي (ممثلا للغرب)، الرئيس الغابوني (ممثلا للوسط)، رئيس وزراء أثيوبيا ( ممثلا للشرق)، والرئيس الموريتاني (ممثلا للشمال)، الذي يضم إلى جانب موريتانيا كلا من الجزائر، ليبيا، مصر ، تونس، والجمهورية الصحراوية.
ولكل واحدة من هذه الدول ظروف موضوعية تُخرج الأزمة البوروندية من دائرة اهتماماتها الأولية (الجزائر، ليبيا، مصر، تونس)، بينما لا تتيح اللوائح الداخلية للإتحاد الإفريقي إمكانية ترشح الجمهورية الصحراوية لوظائف أو مهام فى إطار الإتحاد.
وسيرا على نهجه فى الإستعداد لشغل المقعد الفارغ والإنقضاض على كل سانحة،وجد الرئيس الموريتاني ضالته فى السفر إلى بوجمبوره، حيث كانت ريادة إدارة الحوار مع الأطراف البوروندية من نصيب الرئيس/جاكوب زوما/ لاعتبارات السن والخبرة السياسية والوزن الإقتصادي و البشري و الإستراتيجي لجنوب إفريقيا.
2- رئاسة الإتحاد الإفريقي: إنها رئاسة الصدفة بامتياز: الرئاسة الدورية تتم بالتناوب بين أقاليم القارة الخمسة، وكانت من نصيب شمال إفريقيا الذي كانت وضعية دوله يومها كالتالي: الجزائر منشغلة بالتحضير لانتخابات رئاسية بعد ثلاثة أشهر ورئيسها فى وضعية صحية غيَّبتْه عن المشهد السياسي المحلي.
تونس منهمكة فى تشكيل حكومة جديدة، ورئيسها المؤقت أعلن أن همَّه الأول هو ترتيب البيت الداخلي بدل البحث عن إشعاع دولي هو فى غنًى عنه.
أما ليبيا، فلم تكن بها مؤسسات فى ظل الحرب المشتعلة، بينما كانت عضوية مصر معلقة من طرف الإتحاد الإفريقي بعد الإنقلاب على الرئيس محمد مرسي.
وهكذا حملت الصدفة رئاسة الإتحاد الإفريقي على طبق من ذهب إلى الرئيس الموريتاني الذي لم يكن له منافس فى إقليم شمال إفريقيا المفروض أن تؤول إليه الرئاسة الدورية.
3- رئاسة مجلس السلم والأمن فى الإتحاد الإفريقي: قبل الحديث عن ظروف هذه الرئاسة، تحسن العودة قليلا إلى ممهداتها التي يمكن القول -دون مبالغة- إن الفضل فيها يعود إلى الله أولا ثم إلى جهد مضاعف وإصرار من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي.
ففى الفقرة التاسعة من قراره بخصوص تقرير مجلس السلم والأمن حول أنشطة السلم والأمن فى إفريقيا، أكد مؤتمر القمة الثالث عشر لرؤساء دول وحكومات الإتحاد الإفريقي المنعقد فى مدينة (سرت) الليبية ما بين 1 و 3 يوليو 2009 "دعمه لقرارات مجلس الاسلم والأمن بشأن التغييرات غير الدستورية التي حصلت فى كل من موريتانيا وغينيا ومدغشر".
وعبر مؤتمر القمة عن "ارتياحه للتوقيع على الإتفاق-الإطار للخروج من الأزمة فى موريتانيا، وعن تقديره الفائق لما تحلى به الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله من إحساس عال بالمصلحة العامة، وخاصة قراره الطوعي بإعادة مأموريته الرئاسية إلى الشعب الموريتاني،مقدما بذلك إسهاما تاريخيا فى مسار الخروج من الأزمة فى موريتانيا".
لقد كانت قمة (سرت) امتدادا منطقيا لرؤية (6/6)، واستراتيجية الدبلوماسية الليبية للتسريع بعودة موريتانيا إلى الإتحاد الإفريقي، يساعدها فى ذلك تأثير العقيد الراحل فى القارة الإفريقية، وغياب إطار قانوني إفريقي فعال ضد التغييرات غير الدستورية ( مع مطلع العام 2009 ، كانت 24 دولة إفريقية فقط قد وقعت الميثاق الإفريقي للديمقراطية والإنتخابات والحكامة، ولم تصدق عليه إلا دولتان هما موريتانيا وأثيوبيا، بينما يحتاج هذا الميثاق تصديق 13 دولة ليكون ملزما قانونيا).
لم تكن عودة موريتانيا إلى الإتحاد الإفريقي محل إجماع من طرف الدول الخمس عشرة الأعضاء فى مجلس السلم والأمن، حيث اعتبرت دول مثل نيجيريا وأوغندا وأثيوبيا أن تنظيم انتخابات رئاسية هو الدليل الأهم على عودة موريتانيا إلى وضع دستوري سليم،بينما اعتبرت دول مثل ليبيا والجزائر وبوركينافاسو وبنين وأنغولا أن من المهم توجيه إشارة إيجابية إلى موريتانيا بعد اتفاق داكار، وبعد تنازل الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عن السلطة.
إلا أن العقيد القذافي نجح فى إعادة موريتانيا إلى الإتحاد،تحت ضغط قوي من وسطاء موريتانيين(ليس هذا مقام الكشف عن أسمائهم)، وساعدتْه النظرة السائدة اتجاه نظام الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله لدى بعض شركائه (اعتبره القذافي عاجزا عن قطع العلاقات مع إسرائيل،واعتبرته فرنسا ودول غربية أخرى متساهلا مع الجماعات الإرهابية).
وبالعودة إلى رئاسة موريتانيا لمجلس السلم والأمن الإفريقي، يجدر التذكير بأن المجلس مكون من 15 دولة يتم انتخاب عشر منها لمدة سنتين وخمس لمدة ثلاث سنوات لضمان استمرارية عمل المجلس أثناء فترات التجديد.
وبموجب هذه الآلية دخلت موريتانيا إلى المجلس سنة 2010 إلى جانب ليبيا ممثلتين لإقليم شمال إفريقيا على التوالي لمدة سنتين وثلاث سنوات (من المهم التذكير بأن موريتانيا طلبت سنة 2004 نقلها من إقليم غرب إفريقيا إلى إقليم شمال إفريقيا، فى سياق الإبتعاد التدريجي للرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع عن منطقة إفريقيا جنوب الصحراء والمنظمات شبه الإقليمية التي تضم دولا عاب عليها نظامه ما اعتبره انحيازا إلى السنغال فى أزمتها مع موريتانيا نهاية ثمانينيات القرن الماضي).
دخلت موريتانيا المجلس دون منافسة، لأنها كانت المرشحة الوحيدة للإقليم لحيازة العضوية لمدة عامين، وكان مبرمجا أن تتولى رئاسة المجلس فى يناير 2011 ، بموجب المادة 23 من النظام الداخلي لمجلس السلم والأمن الإفريقي التي تنص على انتقال الرئاسة الدورية للمجلس ،ومدتها شهر،بين الدول الأعضاء حسب الترتيب الأبجدي لأسمائها باللغة الإنجليزية.
4- رئاسة الفريق رفيع المستوى حول الأزمتين الإيفوارية والليبية ساعات بعد تولِّي الرئيس الموريتاني رئاسة مجلس السلم والأمن الإفريقي، اندلعت حرب آبيدجان الكبرى، وفعَّلت قوة الأمم المتحدة قرار مجلس الأمن الدولي 1975 ،فقصفت مع قوة (ليكورن) الفرنسية مواقع عدة من بينها القصر الرئاسي الذي يتحصن فيه الرئيس /لوران غباغبو/ ،فأصبحت متجاوَزَة كلُّ الوساطات السابقة والجارية من طرف /تابو مبكي/ رئيس جنوب إفريقيا السابق، و /جان بينغ/ رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي آنذك، ورؤساء كل من بنين وسيراليون وجزر الرأس الأخضر المفوضين من طرف مجموعة ((CEDEAO ورؤساء دول أو حكومات نيجيريا وكينيا ومالاوي المكلفين من طرف الإتحاد الإفريقي.
لقد كان تعيين الفريق رفيع المستوى (رؤساء موريتانيا، جنوب إفريقيا،بوركينافاسو، تنزانيا وتشاد) نوعا من اللعب فى الوقت الضائع، للأسباب الآنفة الذكر ولأخرى تتعلق بمواقف أطراف النزاع اتجاه اثنين على الأقل من الرؤساء الخمسة ( جاكوب زوما وبليز كومباوري: هذا الأخير لم يسافر مع نظرائه إلى أبيدجان لأسباب أمنية ).
وبينما كان وفد الوساطة الإفريقية يقابل يوم 21 فبراير 2011 طرفي النزاع فى آبيدجان كان الحليف الأقوى للرئيس عزيز فى إفريقيا يسأل "الجرذان" فى بنغازي : (من أنتم؟)، وكلنا نعرف نتائج الوساطة العزيزية، و نهاية سيد "باب العزيزية". اللهم لا شماتة.
لقد تم تمرير قرارات وحدوث اختراقات كبيرة فى الوساطة الإفريقية خلال تلك الفترة التي كان الحراك الإفريقي فيها مدعاة للشفقة، وبعيدا كل البعد عن "النجاح الدبلوماسي غير المسبوق"، شأنه شأن استضافة القمة المرتقبة لجامعة الدول العربية التي قذف بها إلينا الترتيب الأبجدي كالبطاطس الساخنة.