الداه صُهيب، الرمحُ الموريتاني النبيل
سامي كليب
تجعلُنا الحياةُ في بعضِ منعطفاتِها وشؤونها وشجونها وجورِها، نشكُّ بوجود صداقةٍ حقيقيّةٍ. ويدفعُنا الخِذلانُ مِرارًا إلى نوعٍ من الانطواء على الذات، والانكفاء عن المجتمع، حتّى ونحنُ في أوجِ العلاقاتِ الاجتماعيّة التي بات معظمُها افتراضيًّا أو سطحيًّا أو عابرًا كريشةٍ في مهبّ الريح. فنُنشدُ مع الشاعر:
إذا ما طلبتَ أخًا مُخلِصًا فهيهات منك الذي تطلبُ
فكُنْ بانفرادِك ذا غِبطةٍ فما في زمانِك من يُصحبُ
لكنّي أكاد أجزُم أنّي استعدتُ اليقينَ الإنسانيّ بصداقاتٍ تحوّلت الى أخوّةٍ راسخةٍ كسنديانةٍ في جبالِنا أو كشجرة أرزٍ، حين تعرّفتُ على موريتانيا وشعبِها الطيّب الأصيل منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي.
هناك اكتشفتُ كثيرًا من ذاتي، وأدركتُ ماذا يعني أن تعرف رجُلاً فتُآخيه، في زمنٍ عزّ الرجال الرجال، وفي وقتٍ تناثرت الصداقات فوق صفيحِ المصالح والانتهازيّة والحقد.
منذ وطأت قدماي تلك الأرض الصافية بطُهرِ أهلِها، والحافظة مخطوطات تاريخِنا، وأصالةِ عاداتِنا، وكرامةٍ عريقة، ومحبةٍ عميقة، أيقنتُ أنَّ بين البشرِ فعلاً مَن يستحقّ الأخوّة.
قد يكون ذاك العربيُّ الأصيل، الداه صُهيب والذي في اسمه كثيرٌ من عزّ العرب، وكثيرٌ مِن إسلامِ مَن تشابَه معه بالاسم، الصحابيّ الجليل صُهيب بن سِنان الرومي، آخرَ من آخيتُه فوق رمالِ موريتانيا وفي بيوتِها العابقة بصدقِ اللسان وجودِ الطائيّ وعنفوانِ المتنبّي.
يقفُ الداه صُهيب بقامتِه الممشوقةِ كرمح، ولسانهِ الفصيحِ كقاموس، وعروبتِه الساطعة كشمس، والتزامِه القوميّ كثائر، أمامَ زملائه النوّاب صادِحًا بالدفاع عن قضايا العرب، وحاملاً لواء فلسطين، صافيًا كأولئك الصوفيّين الموريتانيّين في لحظة الوِرْد والوِجدِ، صلبًا كجلمود صخرٍ لو مُسّت كرامةُ وطنِه أو بلادُ العُرْب.
أتابعُه اليوم يجوب المناطقَ في حملتِه الانتخابيّة، فيتعزّز يقيني بأنّي لستُ وحدي من يرى فيه تلك الخصال من الوطنيّة والصدق والعروبة والتفاني لأجل وطنَيه الصغير والكبير. هو نائب منطقة " المذرذرة"، ويكاد يكون من بين نُدرةٍ من السياسيّين المُحاطين بكلِّ هذا الاجماع. تمنيّتُ أن أكون موريتانيًّا كي أصوّتَ له، فاكتفيتُ بالمُنى، ومنيّتُ النفسَ بأنّي ذاهبٌ بإذن الله، لتهنئته قريبًا، ليقيني بأنّ الناس في بلاد الشناقطة والصدق والأصالة، لا يخذلون مَن رأوا فيه خير نصير في أوقات الشدّة، وشاعرًا لطيفًا في أوقات السمر.
في كلّ زياراتي الى موريتانيا، ما شعرتُ يومًا سوى أنيّ بين أهلي، وقد بادَلَني أهلي الموريتانيون الحبَّ بأجمل منه، وها هو صديقي وزميلي ورفيق المهنة والرحلات والبداوة التي نعتزّ بها ونضحكُ على من لا يفهمها عبداللّه ولد محمدي يروي في كتابه الجميل لغة ومضمونًا والحامل عنوان " شهود زمن"، بعضًا من تلاقي القلوب، ورفقة الدروب، وسمر السهوب. (لي عودةُ الى الكتاب قريبًا).
بين الداه صهيب وعبدالله ولد محمْدي، مرّ عمرٌ، تعرّفتُ فيه على كثيرٍ من الأخوة الموريتانيين، فآنَسَني شعرُ فلسطين والعروبة بقلم وصوت المحامي والشاعر والصديق محمَدنّ ولد شدّو، وعَمَّق معارفي الاجتماعية والفلسفيّة الصديق والأستاذ الجامعي والكاتب الألمعي سيّد ولد أباه، وأطرَبَني شدوُ المُبدعة المعلومة منت الميداح التي زاوجت الفنّ الراقي بالسياسة وصارت ناشطة شهيرة وعضوة في مجلس الشيوخ، وهذّب كبريائي تواضعُ السياسيّين الذين إن تركوا السُلطة ما تردّدوا حتى في رعي الإبل، كما كان شأن أحد رؤسائهم. فالموريتاني إنْ تكلّم، قال الكلمة المُناسبةَ في المكان المُناسب، بصوتٍ هادئ وكلمات مُهذّبة، وإنْ غِضِبَ أزالَ السفارة الإسرائيلية عن بكرة أبيها بعد أن قطع العلاقات العابرة مع الكيان الغاصب منذ سنوات طويلة، ورفع مُجسّم المسجد الأقصى قبالةَ السفارة الأميركية.
لا يتسّع المقامُ لذكر كلّ من آخيتُهم في تلك البلاد التي انسابت الى قلبي ورسخت فيه، فكتبتُ عنها في كتابيَّ " الرحّالة-هكذا رأيتُ العالم" و " دروب الحرير-الرحّالة 2”، وسوف أكتبُ حتى آخر رمقٍ في هذه الحياة، لانّ الحياةَ بلا التعرّف على موريتانيا ستبقى حتمًا ناقصة.
وسأقول مبروكًا سلفًا لصديقي وأخي وشقيقي الداه صُهيب، الرمح العربي النبيل.