لست من الذين يفضلون الاستسلام للتشاؤم أو يستسلمون للإحباط بل دائما أفتح بابا للتفاؤل مهما كانت الصعوبات والتحديات سيما عند الكلام عن قطاع كالزراعة لديه معوقات كثيرة بنيوية وتنظيمية وتحديات بيئية ومناخية وسسيولوجية في بلد مترامي الأطراف ،أهله قريبو عهد بالترحال والبداوة يأخذون الأمور ببساطة وبسرعة دون الغوص في العواقب أو التركيز بمافيه الكفاية على المستقبل .
إن قطاع الزراعة في بلادنا كمجال أو قطاع متشعب يلامس بشكل أو بآخر جميع مناحي الحياة سواء كانت اجتماعية أوسياسية أو اقتصادية وجد نفسه منذ عقود قليلة يصارع بين العشوائية وتدني الإنتاجية والنظرة التقليدية من جهة، والتنظيم والمحاولات المتكررة لتطوير الأداء رغم المعوقات البنيوية من جهة أخرى ،وظل القطاع العمومي لسنوات طويلة وحيدا في الميدان يقارع عاصفة هوجاء من الظروف المناخية ووعورة مناطق الإتتاج وبدائية الوسائل والعقليات الاجتماعية المرتبطة بالأرض، وخلق هذا الواقع حلول أحيانا ترقيعية وتراكمات عرقلت في مراحل معينة أسس العلاج السليم ،قبل أن يظهر بحذر القطاع الخاص الذي هو عنصر هام في التنمية الزراعية فتطور هو الآخر تدريجيا وأفرز طبقات ساهمت بشكل أو بآخر في التطور والإخفاق على حد سواء ، بيد أنه ورغم كل ذلك أضحت الزراعة واقعا ملموسا على علاتها وترجمت كل تلك الجهود إلى تطور ملاحظ في الزراعة المطرية من خلال تحسيين زراعة المحاصيل التقليدية وخلق زراعة مروية يركن إليها على ضفاف النهر وتنمية االواحات وانتشار زراعة الخضراوات ،وشكل قطاع الزراعة العمومي قاطرة وفية للقطاع الخاص ومحاورا مرموقا لدى شركائنا في التنمية لجلب الاستثمار وإطلاق مشاريع تنموية متعددة لتخفيف وطأة الظروف القاسية في الريف ، وتشكلت قاعدة بيانات لكوادر وطنية واكبت تحولات عديدة وعميقة واكتسبت ثقافة معتبرة في مجالات مقاربات التنمية وأهم معوقاتها ،ومن الطبيعي أن كل اجتماع موسع لهؤلاء الكوادر والأطر هو فرصة من جديد لغربلة القطاع وتشخيص حاله وتقييمه تقييما يقوم على الخبرة والواقعية، وفي هذا السياق يأتي ملتقى تكنت المنظم من طرف قطاع الزراعة من 9 إلى 11 دجمبر 2022 الذي شكل فرصة أخرى لكل الكوادر الوطنية في مجال الزراعة لتبادل وتدارس أهم الأفكار وتشخيص المشاكل والبحث عن الحلول، ولعل من أهم ماميز هذا الملتقى حضور معالي وزير الزراعة والسيد الأمين العام لكل مراحل ومكونات هذا الملتقى بدءا من الانطلاق وتقديم العروض مرورا بجلسات
النقاش والتشاور بين المجموعات وانتهاء بالتوصيات والمقترحات ، من الصباح الباكر وحتى ساعة متاخرة من الليل وهو أمر هام لاشك أضفى قدرا كبيرا من الجدية والثقة في الآراء والأفكار المقدمة، فتقسيم المشاركين إلى مجموعات لتدارس مختلف الشُعب وأنماط وأساليب الزراعة سواء كانت مطرية بمختلف محاصيلها التقليدية والقمح وزراعة الأعلاف ،أومروية كزراعة الأرز، وشعبة الخضراوات والنخيل والاشجار المثمرة ، ومسائل جوهرية أخرى لاغنى عنها لتطوير الزراعة واستمرارها كالبحث والإرشاد والتكوين والتمويل والاستثمار والتأمين، فضلا عن تشعب المشاركين القادمين من بيئات مختلفة ومشارب فنية ومستويات إدارية متعددة مثل الإدارات المركزية والمؤسسات والمراكز العمومية ،والمشاريع التابعة للقطاع والمندوبيات الجهوية من النعمة إلى ازويرات ، كله حراك واقعي ومعنوي كبير لاشك سيخلق طريقا ممهدا لوضع استراتيجية صائبة بحول الله تزيد الإنتاج على كافة الصعد وتعمل على استمراره عبر تنفيذ المخرجات والتوصيات الفنية والاقتصادية.
لكن أيضا ورغم كل هذا لاتزال الزراعة الوطنية بعيدة عن طموحنا وظل الرأي العام الوطني يحمل هذا القطاع كل هزة نتجت عن جائحة أو غلق للحدود أو زيادة في أسعار
المنتجات الزراعية ، وهنا علينا ألا نحمل قطاع الزراعة وحده كل المسؤولية فهو بحاجة إلى مؤازرة الجميع، والعديد من القطاعات الأخرى مكملة له، فكل قطاع يهتم بتنمية الريف مثل التعليم ، الصحة ، النقل ، التجارة ، الأمن الغذائي ..إلخ ، يصب تلقائيا في مصلحة الزراعة وتطورها و المساهمة في تزايد مستوى النضج لدى ساكنة الريف وخلق ظروف ملائمة لخفض تكاليف العملية الإنتاحية وزيادة التنافسية وخلق فرص عمل فضلا عن انعكاسه إيجابا على تصور وفهم العملية الزراعية والتمكين من اكتساب ثقافة فنية تساعد على زيادة الإنتاج وتعزيز القدرات .
ولكن في نفس الوقت على قطاع الزراعة والقائمين عليه أن يدركوا أن الجزء الأكبر يقع على عاتقهم، فالصدق في الطرح والإرادة القوية والنزاهة في التسيير والبعد عن مكامن الفساد وتبديد الثروات، واستغلال االميزانية استغلالا حكيما من أهم أسباب النجاح أو على الأقل منع التدهور والإبقاء على الأمل.
ولقد استمعنا في ملتقى تكنت إلى أفكار كثيرة وطرح منطقي قابل للتطبيق في نفس الوقت ،ولعل أهم الأفكار التي وردت في هذا الملتقى هي ضرورة الأخذ في الاعتبار العامل الاقتصادي في الزراعة، وفهم دور القطاع العام وضخ استثمارات معتبرة والعمل على تبوء القطاع الخاص مكانته المرموقة ،والمحافظة على الزراعة التضامنية والبعد الاجتماعي خاصة في مناطق الريف ، لكن هناك جزء هام لا يحظى عادة بتسليط الضوء الكافي في الندوات والملتقيات حسب وجهة نظري وهو دور العلم في الزراعة وتطورها على كافة الصعد، فالكوادر الوطنية اليوم تعاني من نفص كبير في التأهيل ومواكبة الزراعة والتكنلوجيا المصاحبة التي وصلت إلى مراحل متقدمة على غرار الطب والاتصالات، فنحن بحاجة ماسة إلى الأخذ بأساليب العلم وناصيته وضخ كوادر مسلحة بالأفكار العلمية الأكاديمية الحديثة وآخر ماتوصل إليه العلم في مجالات البحث الزراعي و وأنماط الري وتحسين خواص التربة واستنباط أصناف البذور الملائمة في ظل التغيرات المناخية التي أثرت بشكل كبير على مختلف مناحي الحياة وخاصة في الجانب الزراعي، ولقد تطرقت شخصيا في إحدى مداخلاتي أمام الملتقى إلى أنه حان الوقت أكثر من أي وقت مضى إلى العمل على فتح كلية للزراعة في العاصمة انواكشوط بالتعاون مع وزارة التعليم العالي على غرار كلية الطب وتزويدها بكل ما تحتاجه بغية تخريج مهندسين موريتانيين ملمين بواقع البيئة الوطنية من محاصيل ومناخ وآفات وغيرها .
فالمهندسون الزراعيون الموريتانون اليوم أصبحوا قلة ، وعلى مر عقود جاءوا من مشارب مختلفة وجامعات وبلدان شتى و درسوا فقط بيئة البلد الذي تخرجوا من جامعاته، مما خلق أجواء من التباين والتمايز في اللغة والمصطلحات والأفكار وطريقة التعامل مع المعوقات الزراعية المختلقة الأمر الذي انعكس سلبا على التعاطي الفني مع أهم المسائل الزراعية .
ومهما يكن من أمر فإن الحديث عن الزراعة كما يقال "حديث ذو شجون "متشعب وكبير في بلد مساحته تزيد على مليون كلومتر مربع ولها مناطق أيكلوجية شاسعة ومتنوعة ، وربما في الوقت الذي أكتب فيه هذا المقال هناك فرق تكافح الطيور في شمامه، وأخرى تكافح الجراد في أفله ،وثالثة توزع بذور الخضراوات في آدرار ، وآخرون يعملون على دراسة السياج وأدوات المكافحة في الحوضين وغيرهم يعمل للتحكم في المياه في لبراكنة وكيدي ماغه..إلخ ، وفي ظل ظروف قاسية ونقص التجهيرات ووسائل النقل يعمل المفتشون والمرشدون وعمال القطاع في أعماق الوطن، فعلينا أن ندرك أن التنمية الزراعية وتطويرها عملية شاقة وطويلة تحتاج الصبر والإرادة والتحلي بالوطنية والإيمان وتضافر جهود الجميع وتوفير الحد الأدنى من الإمكانات والوسائل.
أسال الله العلي العظيم أن يوفق قطاع الزراعة في ترجمة حلم الموريتانين في الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء في زمن لم يعد لنا من بد سوى إنتاج غذائنا من أرضنا وماذلك على الله بعزيز.
م. لمهابه ولد بَلال / إطار بوزارة الزراعة
دجمبر 2022