ما كتبه الأستاذ عبد الله بن إسماعيل بن أبي مدين في مقدمته لديوان الشيخ سيديَّ بابَ (ص6/ الهامش2)، بخصوص مُلابساتِ بيعة الشيخ سيديَّ بابَ وتنصيبه في خلافة والده، لا تُسنِدُه القرائنُ والوقائع، بلْ هو تجاوُزٌ للحقائق الثابتة، والأحداث التاريخية المُوثَّقَة.
والمحفوظُ في سِياق تلك القصة، هو أنَّ هذه القبيلة المباركة، قبيلةَ أولاد أَبْيَيْري، مُمَثّلَةً في كُبَرائِها وأُولِي الرَّأْي منها لَمْ يَرْضَوْا بغير تنصيبِ الشيخ بابَ خليفةً عن والدِه، رغم الأصوات التي تعالتْ هنا أو هناك، مُطالبةً ببيعة بعض كُبَراء تلاميذ الشيخ سيدِيَّ الكبير، نَظَراً إلى حَداثة سِنّ حَفِيدَيْه الشيخ سيديَّ بابَ، وشقيقه الشيخ سيدي المختار "ابَّاهْ"، وأَنَّهُم لَمَّا بلغهُم الخبرُ أقبلوا، وقد عزموا أمرَهُم، وبَيَّتُوا رَأْيَهُم، فبايَعُوا الشيخ سيدِيَّ بابَ بحُضور والدتِه أمَّامَه بنت عالِ بن عَبْدي، فأَذْعَن عند ذلك كُلّ مَن حضر ولم يَتَخلَّفْ عن البيعة أحدٌ.
وكان الذي عَقَدَ تلك البيعةَ جماعةٌ مِن أعيان أهل الحَلّ والعَقْد، مِن مجموعة أهل أحمد بن الفاللِّي وأَمْضَى ذلك بقيّةُ مجموعات أولاد أبْيَيْري، وأكابرُ تلامذة ومريدي الشيخ سيدي الكبير، وكان رئيسُ وفد أهل أحمد بن الفاللّي عبد الفتاح بن عبد الله بن أشفقنللّ، وعالِمُهم هو العلامة محمد محمود بن عبد الفتاح بن عبد الله بن أحمد بن بُدَّه، وقد أنشد بهذه المناسبة أُرْجُوزتَه المشهورة، وهي تُوَثِّق ما حصل، وكيفَ حصل. ومِمّا قاله فيها يذكرُ ما أصابَ الناسَ مِن حَيْرة واضطرابٍ قبلَ أنْ تَنجَلِيَ الغُمَّة على يَدِ الجماعة المذكورة:
وحِينَ جالَ القَومُ في التَّفْكارِ / قَدْ أَقْبَلُوا مِن غَيْرِ ما إِدْبَارِ
ووَفَدُوا وُفُودَ ذِي اسْتِنْصَارِ / على الشُّيُوخِ الجِلَّةِ الأَقْمارِ
مُعَظِّمِينَ حَرَمَ المَزارِ / مُبايِعِينَ بَيْعَةَ الأَنْصَارِ
بالسَّمْعِ والطَّوْعِ مَدَى الأَعْصارِ / نَجْلَ سَلِيلِ الشَّيْخِ ذِي الأَسْرارِ
سَمِيَّهُ السَّامِي الهِلالَ السَّارِي / بابَ الهُدَى خَلِيفَةَ الأَخْيارِ
وكما وَثَّقَتْ هذه الأُرْجُوزة أمر تلكَ البيعة، وَثَّقَتْها أيضاً أُرْجُوزةٌ أُخْرَى جاءتْ رَدّاً عليها مِن طَرَفِ الشيخ أحمدو بن سليمان، وقد كان في رَدِّه مُفْعَماً بالاِمتِنان والعِرْفان بالجَمِيل لمَنْ قامُوا بهذا الدَّوْر مِن رِجالاتِ القَبِيلَة، فهو يقولُ مُهَلِّلاً بوَفْدِ البيعة:
بوَفْدِ أهل أَحْمَدَ بْنِ الفاضِلِ / نَجْلِ مُرابِطْ مَكَّ كَهْفِ النَّازِلِ
مِن سِرِّ هاشِم الأَبِيِّ الباسِلِ / مُصاصِ فِهْرٍ ذرْوَةِ المَحافِلِ
آلافُ مَرْحَبٍ وسَهْلٍ كافِلِ / لَهُمْ بِكُلِّ حاجَةٍ ونائِلِ
حتى يقول:
لَمّا رَأَوْا هَوْلَ الزَّمانِ الهَائِلِ / وسَامَ نَقْضَ العَهْدِ كُلُّ مائِلِ
أَتَوْا بِوَفْدِ فِتْيَةٍ أَماثِلِ / بِيضِ الوُجُوهِ زِينَةِ المَحافِلِ
فَحَلَفُوا بالله والوَسائِلِ / وبالعَزائِم وبالرَّسائِلِ
أَنْ لا يَحِيدَ عن عُهُودِ الكامِلِ / شَفْرٌ مِن الجَعافِرِ الأَفاضِلِ
وبَايَعُوا خَلِيفَةَ الحُلاحِلِ / وأُمَّه بابَ هُدَى المَسائِلِ
رغْماً لكُلِّ حاسِدٍ وقائِلِ / ومَزَّقُوا شِباكَ كُلِّ حابِلِ
#والغريبُ هو تلك الطريقة التي أورَد بها الكاتبُ هاتَيْن الأُرْجُوزَتَيْن، فقد أَعطاهُما قِراءَةً جديدةً تنبثِقُ مِن رُؤيةٍ خاصّةٍ للوقائع والأحداث، لا تَمُتّ للواقع بصِلة!
وإنْ تَعْجَبْ فعَجَبٌ قولُه نَقْلاً عمَّنْ أَسْنَد إليه: إنَّ أولادَ أَبْيَيْري لم يَسْتَجِيبُوا لبيعة الشيخ سِيدِيَّ بابَ إلا بعد أن نزَعَ الشيخ أحمدو بن سليمان عِمامتَه، وخاطبَهُم بصَرامة فيها نَبْرةُ التهديد والوعيد!
وليسَ هذا مِمّا يُمكِن أن يَصدُر عن الشيخ أحمدو، فقد عاش في كَنَفِ هذه القبيلة، وغُذِيَ بدَرِّها ولبَانِها، ويعلمُ مِن حالِها وقُوَّة شَكِيمَتِها، أنّ لغة التهديد لا تنفعُ معها، وقد كان مُجِلاًّ لكُبَرائِها عارِفاً بمَقامِه منهم، ولم يُؤخَذْ عليه تقصيرٌ فيما يتعلق بذلك، كما لم يُسجَّلْ عليه أنّه سعى في تفريق ذاتِ بَيْنِهم، سواء أكان ذلك على المستوى العامّ، أم على المستوى الأُسَريّ الخاصّ، وكانَ يعرفُ الفضلَ لأهلِه، وأُرْجُوزتُه المتقدّمة شاهدةٌ على ذلك، وهو أحدُ مَن تَربَّى على يد الشيخ سيديَّ الكبير، وشهد لهم بالعلم والصلاح.
هذا إضافةً إلى أنّ هذه الرواية المُنكَرةَ التي جاء بها الكاتب لا تصحُّ عنه، وهو منها بَراء.
كما أنّها لا تصحُّ عن الدَّاهْ بن عبد الفتاح بحال من الأحوال، فهي تُخالف ما نقلَه عنه العُدول الثِّقات، ومنهم أبناؤُه السادة الكِرام الأفاضل، وقد تَجاوزهُم الكاتِبُ فيما نقلَهُ عن والدِهم، كما تجاوَز غيرَهم مِن ذَوِيه الأقربين، مِمَّن هُم أضبطُ وأعرفُ بهذا الشأن مِن غيرِهم. وهذا مِن تَجاوُزاتِه الكثيرة في هذا المحلّ، وهو أمرٌ يُثِير الرِّيبةَ والاستِغراب!
ِوقد حَدَّثني السَّيّدُ النَّابِه، العدلُ المُبرِّز، محمد بن الدَّاهْ بن عبد الفتّاح، عن والدِه الدَّاهْ بن عبد الفتّاح، أنَّه سَمِعَه يُحَدِّثُ عن واقعة تلك البيعة، فساقَ الحديثَ على نَحْوِ ما قَدَّمْناه.
وقد كان حديثي معه بحُضور السَّيّد الفاضل، عبد العزيز بن عبد الفتاح بن محمد.
وحدَّثني بذلك أيضا الأُستاذ المؤرّخ الثِّقة الثَّبْت، عبد الرحمن ابن الدَّاه بن عبد الفتاح عن والدِه.
وحدَّثني به الأُستاذ المؤرّخ الثِّقة، سَنَّاد بن الطّالب بن عبد الفتاح، عن الدَّاه بن عبد الفتاح أيضا، وعن والدِه الطالب بن أحمد بن المختار بن عبد الفتاح.
وحدَّثني به الأستاذُ الثّقة المؤرخ، الحسين بن عبد الرحمن بن الحسين بن امْرابط، عن والده عن جدِّه، وكان في جملة مَن حضر أمرَ تلك البيعة مع إخوته.
وحدَّثني به الأستاذ المؤرخ الثِّقة، سيد أحمد بن مَعْلُوم بن أحمد زروق، عن مَشْيَخَة جماعة أهل أحمد بن الفاللي مثل: محمد يحيى بن الطلبة، وحَيْبَللّ بن يسلم، واعْدَجّان بن محمد الأمين... وغيرهم.
وقد ساقَ القِصَّةَ مساقَها الصحيح على نحو حديث هؤلاء، الأستاذ السيد الفاضل، عبد الفتاح بن سِيدْنا في مقدمة رسالته للتخرج من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية (ص19)، وهي بعُنوان: (تهذيب المسائل الخوافي من علم العروض وعلم القوافي/ لمؤلِّفه: محمد محمود بن عبد الفتاح/ بحث لنيل شهادة المتريز في العلوم الشرعية/ تحقيق: عبد الفتاح بن سيدنا/ إشراف الأستاذ: أحمد بن امبيريك/ السنة الجامعية: 86-1987م).
كتبه: إسماعيل بن محمد يحيى أشفقنا الله