تتداخل الأحداث اليوم وتتشابك حيثياتها وتختلطخيوطها ويكثر الفاعلون فيها وتختلف توجهاتهم وتمتلئ بالتناقضات، ويمتزج فيها الحق بغيره على ساحتنا الإسلامية عموما وفي الشرق الأوسط خصوصا ، حتى لا يكاد المرء يميز أيًَا كان ، أيًِ طريق يسلك أيٌَ ، وإلى أي وجهة يتوجه ، وأي توجه يقوده ، وأي مسار يعتمد وأي هدف ينشد وأي وسيلة يقبل ، وأي محذور ومحظور يتجنب وبأي مقبول يؤمن ..إذ يحتجب الأفق أمام الأعين بالضباب والسراب – فلا مانع من اجتماعهما على مثل هذه الساحة – فتضعف إمكانية الرؤية ويكبر احتمال أن يكون الظاهر على غير الحقيقة ، ويغطي بصرَ البعض إن لم نقل الغالبية ربما قذى أمراض البصيرة من تحيزات وتخندقات ضيقة وتجاذبات عميقة ، وتملأ الأذان أصوات المدافع والقذائف والانفجارات لتزكم الأنوف الأرض الصائرة غبارا والمدن المتحولة دمارا ،كما أثار الحضارة والمجد والتاريخ التي تشهد إعصارا ، ورائحة حياة العطاء والشموخ والأصالة المستحيلة فتورا وموتا ونارا ..!!
إن حواس المرءبهذا تكاد تتعطل ، الشيء الذي يهدد إن حصل بأن يجعلنا لا نحس على الإطلاق بأي خطر مهما كبر وداهم ،ونصبح لا قدر الله مفعولا به بالبصمة ..
على هذه الحافة لا يبقى للمرء إلا أن يسترجع شريط الذاكرة ليقرأ .. ولكن هل يمكنه ذلك ؟ مشكلة كبرى ومعضلة حقيقية عندما نجد أنفسنا أحيانا لا نجيد قراءة الأحداث أو بالأحرى أميون في مثل هكذا قراءة ..
إن أبسط تتبع وأكثره استعجالا سيظهر أن كل الحروب والمشاكل والقلاقل والويلات في عالمنا اليوم –كلها تقريبا – كانت على أرضنا الإسلامية ؛ لا يخص ذلك منها جهة جغرافية ولا طائفة ولا فئة معينة ولا أهل مذهب ما ، ولا اصحاب فكر أو إديولوجيا موصومين بل تستهدف الكل دون استثناء أو تمييز أو فرق ..
ويظهر في الامر بكل جلاء التدبير الصهيوأمريكي ومن يدور في فلكه لإضعاف المسلمين أيا كانوا وأين وكيف ما كانوا.. استهداف للقوى بجميع أشكالها وأنواعها وألوانها؛فكرية حضارية اقتصادية اجتماعية أو عسكرية ،فقط عندما يلاحظ الأمريكي والإسرائيلي أن هذه الدولة أوتلك تتقدم بثبات وتخطو بثقة ، أو أن هذه المجموعة اصطفت وانتظمت واتحدت وقد تصبح يوما ذات شأن ، أو حتى أن هذه الشخصية لها طموح جامح وأهداف عليا وغايات سامية تسعى لتحقيقها ؛ ولها القوة الذاتية للوصول – إن سُمح لها – إلى مبتغاها؛ تصبح بذلك تلك الدولة أو المجموعة أو حتى الفرد محل دراسات واستراتيجيات لا تريد الإضعاف إو التقليل من الشأن أو الحصار أو الإهانة والتفرقة، أو التمزيق والتقسيم وحسب ، بل تتجاوز كل طموحات الحقد ومشاريع الكراهية تلك الى النزوع لإرادة السحق دون تجاوز أي شيء من دوس الكرامة وتصفية الأجساد وتحويل المدر والحجر ومنحوت التاريخ و الأثر الى هشيم تذروه عواصف الكيد والخديعة والمكر ..
نعم لقد رسموا خطتهم الماكرة وتراءت للمتيقظين ملامح خطوطها العريضة والدقيقة وجغرافية خريطتها المعقدة ، لكننا لم نفهم كلنا دلالات الرسوم ولم نفكك شفرات المنهج حتى صرنا ثيرانا بعدد الألوان ، وأوهمونا بأنهم لم يعودوا المسؤولين عن رعي البقر ، وإنما رعاية الثيران فقط!!.
فكانت سطحيتنا وطيبوبتنا الساذجة شركنا الذي نُبتلع عن طريقه .
لقد جعلتهم غفلتنا عن قراءة المخطط وتجاهلنا تارة له ، بل عدم تصديق بعضنا واعتماد البعض سياسية دس الرؤوس في التراب جعلهم ذلك كله يكتبون جل حروف مخططهم على أرض الواقع للأسف.
لقد أسرعوا في التجسيد موهمين كل من يحاول التمعن في بعض أحرف الحدث بأنهم ينوون فقط نقش وجوده على الحجر وترسيخ جذوره في الأرض لضمان بقائه واستمراره بل ديمومته، لأنه الأجدى والأجدر والأهم والرائد ؛زاعمين أن بقية إخوته في الدين والأرض وبني جلدته حتى ؛ هم من يكدر الصفو، ويجلب الشؤم ويجر الويلات ويعجل بالنهاية ،حتى يجعلوا من كلٍ عدو وخصم وغريم لكلٍ .. فيستفردوا بمن شاؤوا حيث شاؤوا ومتى شاؤوا على أن يطوروا الصياغة ويحكموا الحباكة ويغيروا الأسلوب ، ويضيفوا مسَحات جديدة على كل فصل من فصول مكرهم السيء .
لقد كان من نتائج ذلك كل ما نشاهده منذ عملية الاحتلال الصهيوني المقيت للأراضي المقدسة ، والحروب التي تبعت ذلك مرورا بحرب الثمان سنوات البينية بين الإخوة في الدين والحضارة والتاريخ اللصقاء في الجغرافيا ،والتي أخطأ الجانبان الإيراني والعراقي معا في الاستجابة لها أصلا ، وتضرر منها المسلمون على كلتي جبهتيها ، والتي ما إن انتهت حتى نصبوا للكفة الوازنة آنذاك من الكمائن ما لا يمكنها تجاوزه ، فتكالبوا عليها وجعلوها أثرا مقسما بل مشتتا أشلاء غارقة في دمائها بعدما كانت عينا أثرية معطاء لا تنضب بزلال الحضارة والمجد والكبرياء والتاريخ والنماء والمعرفة وجموح الطموح ...
وليست الحرب بأفغانستان إلا جزء من ذلك المشهد الذي مُزق فيه المسلمون هناك أيما ممزق ، وبدل أن نقف معهم حينها فنشد على يد المحق منهم ونصوب المخطئ ونحتويه ،تخلينا عنهم وأسلمناهم بصمت رهيب لا يقطعه إلا تعليق صحفي على بشاعة الصور ، وربما كان المعد والتعليق والصور خطا دقيقا أريد لنا من خلاله أن نرى ونسمع وكأننا نشهد حتى ننهزم نفسيا ويموت فينا الإحساس بوحدة الجسد وروح النصرة والمؤازرة وحتى حس الانتفاض والرفض .
وجعلوا أفغانستان وباكستان بؤرا للمواد شديدة الاشتعال زنادها بين أصابعهم وهم المولعون بالإيلاع .
لكن كبرياء الحلف الصهيوأمريكي خدش ومرغ أنفه في الأرض في مواجهات أخرى مع المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين ، مما جعل الخطة ينبغي أن تتغير وخصوصا بعد حقائق حرب تموز 2006 ،وكل الحروب على غزة ..
وربما يكون ما سمي يوما من طرف البعض "الربيع العربي "نتاج نتائج حرب إسرائيل مع قوى المقاومة ، إلا أن هؤلاء الحاقدين الذين يرفضون وجودنا ويحاولون حتى منعنا من الأكسجين وصلوا "الحد" الذي لا ينبغي أن نسمح بتجاوزه في كتابة ذلك " الحدث" الذي يريدونه على الأرض ، فتلك ليبيا واليمن بأجواء مشحونة بالتوترات والخلافات التي لا تنتهي ومسرح دوامات عنف لا تُترك لها فرصة لإيقاف النزيف ولملمة الجراح ولم الشمل؛ بفعل الأيادي الخفية والظاهرة التي تعبث بكل شيء وتعمل بالليل والنهار في السر والعلن على توسيع الخرق على أي محاولة رقع قد تكون.
وليست تركيا ومصر وجميع دول المنطقة بالتأكيد بمنأى عن إرادة هؤلاء بمخططاتهم في الفوضى ولقاء مصير سابقاتها لأنها فقط دول إسلامية، بالرغم أن البعض للأسف لا زال يعتقد بتفريق الصهاينة وموالاتهم بين الدول الإسلامية أو المجموعات أو الطوائف. إلا أنه لابد من تسجيل أن سوريا كانت حجر عثرة بل جبل صدٍَ بقي شامخا مهددا بهزيمة البرنامج إن لم نقل اغتياله ، بالرغم من قوة العدو وضخامة وتنوع وسائله وكونه مطاعا في كل شيء بكل شيء تقريبا في المنطقة ..
نعم لقد ارتبك الأمريكي من نفَس الحياة الذي لا يقبل التوقف في سوريا ، فأخذ يقدر ويقرر وفي كل مرة تجري الرياح بما لا تشتهي سفنه التي اعتاد أن تهيأ لها كل العوامل حتى تمخر أي عباب بأسرع وقت و أقل تكلفة واصلة في النهاية إلى بر أمانها !
وفي هذا الخضم يبدوا أن أمريكا أو "الشيطان الأكبر" بدأت تركز على مرتكز واحد دون غيره مراهنة على أنه الضامن الوحيد في هذه الظروف لوصولها للأهداف ، ألا وهو الفتنة الطائفية التي عملت كثيرا ومنذ فترة طويلة على غرسها وتغذيتها ورعايتها بيننا لنلتقي بسيوفنا بشكل أوسع وأكثر انتشارا وأشمل لجميع الأطياف والمجموعات والدول ، فنكفيها بذلك – لا قدر الله – شر بعضنا ، وتبقى هي باسطة نفوذها ناهبة الخيرات في غمرة النشوة وموجَِهة في كل لحظة كل طرف إلى أهداف جديدة لدى الآخر ، ومرشدة إلى السبيل الأقصر للنيل منه بل الفتك به .
فهل ستترك السعودية وإيران كفاعلين أساسيين وكل دول العالم الإسلامي الفرصة لنزغ "الشيطان الأكبر "من أجل جر عالمنا الإسلامي إلى الحرب الشاملة ضد نفسه لا سمح الله، أم ستكون هناك جرأة عقلانية متيقظة تقرأ ما يكتبه العدو على الأرض وترد عليه بالبحث عن سبل التقارب بدل التباين ، والتعاون بدل الصراع ، والتفاهم بدل إدارة الظهر ، وردم الهوة بدل توسيعها ، والتعاون على توجيه البوصلة إلى العدو الحقيقي والمشكل الأساس ، والسرطان الذي يسرب الضعف والهوان إلى جميع أعضاء جسم المنطقة والأمة ، والذي لم نعد قادرين كما يبدو على مواجهته حتى بعبارة من قبيل نشجب وندين ونستنكر، أما نرفض ومن غير المعقول ولا ينبغي فقد ولى زمنها منذ أمد .مع أن الصهيوني يمعن يوميا في إبادة البشر الإخوة وتدنيس المقدسات الأمانة ، وتلطيخ التاريخ العرض ، وإداسة الكرامة الوجود، بأفعاله دون ترك أي وقت للكلام .
يقول لسان حال المسلمين اليوم للسعودية وإيران وكل دول العالم الإسلامي الفاعلة أنها تتحمل مسؤولية الكل ، واللحظة تاريخية والأمر جلل والخطب عظيم والثمن الإسلام والمسلمين والتهديد في الصميم والوجود ؛وإذ يسجل لإيران تصريحات مهمة خلال الأيام الأخيرة تحاول من خلالها استعطاف السعودية وإبراز أن المصالح المشتركة معها موجودة في سوريا وغيرها بلغة حكمة ونضج فإنه يطلب منها أكثر وأكثر ، والأمر يستدعي من السعودية أيضا أن تفعل نفس الشيء وتنحو نفس المنحى وهي قادرة على ذلك ، فلا عيب ولا ضير ولا ضعف ولا هوان ولا هزيمة لأي طرف إذا ما توجه لتقارب يخدم الدين والوجود ، بدلا من الشد والجذب الذي يهدد حبل المودة والأخوة والمصالح الحافظ للدين وأهله ، والذي تتحملان معا المسؤولية التاريخية والأخلاقية والدينية تجاهه .
وليس من المنطق ولا المقبول ولا المعقول أن يكون مصير رجل "الأسد" مشكل أمة ، بل هناك ورائيات يجب تركها والتنازل عنها بل التخلي عنها والابتعاد منها من كل طرف .
إنه لم يبق لسيدتي العالم الإسلام اليوم إلا أن تدفعا الشر بالخير من الطرفين وتنقذا الأمة وتتنازلا لترتقي الأخيرة وتتقدم وتنمو وتزدهر بهما متحدتي الهدف والرؤية ، أو على الأقل تعملان على أنهما متحدتي العدو، وإلا فإن الخيار الآخر هو أن تتركا للصهيوأمريكي وحلفاؤه وقطبه الفرصة أن يفعلوا فعلتهم ،عندها لن ينفع أسف وسنقرأ الواقع بعد أن تكاملت فصوله وأحرفه وحروفه ، فنندم على أننا لا نقرأ حتى الأحداث إلا بعدما تتجاوزنا وتصبح من التاريخ ، مع أن مثل هكذا حدث يهدد بأن نصبح نحن به أيضا جزء من تاريخ غير مشرف .
فحذاري حذاري لا تتركوهم يفعلوها ، أوقفوهم عند هذا "الحد" فلا لكتابة ثاء الحدث .
ابراهيم محمد مزيد - موريتانيا