شكل مؤتمر ألاك في مايو1958 أول فرصة سياسية تتاح لممثلي فوتا الموريتاني لعرض تصورهم لمستقبل الدولة المستقلة. لقد طالبوا إضافة إلى دولة ثنائية الهوية، باعتماد الفرنسية لغة رسمية، وهو الموقف الذي أعيد طرحه بعد ذلك بسنوات بمناسبة تأسيس حزب الشعب الموريتاني، الذي أصبح فيما بعد التشكيلة السياسية الوطنية الوحيدة بعد أن اندمجت فيه كل الأحزاب وهي بالتحديد: حزب التجمع الموريتاني (PRM)، الاتحاد الوطني الموريتاني (UNM) وحزب النهضة.
انعقد "مؤتمر الطاولة المستديرة" بتاريخ 20 إلى 22 مايو 1961 في أجواء غلب عليها التوتر، بسبب "المشكل الثقافي" المتمثل في تعميم تدريس العربية في المؤسسات العمومية.
يحي ولد عبدي، العضو المؤسس في حزب النهضة ومدير الأمن الوطني في عهد ولد داداه والذي كان مشاركا في أعمال هذا المؤتمر الذي عرف فيما بعد ضمن تاريخ البلد بأنه مؤتمر الوحدة الوطنية، أكد في مذكراته أن اللقاء كاد يفشل بسبب الموقف المتعصب لممثلي طائفة السود من قضية ترسيم اللغة العربية. وأوكلت للمختار مهمة إعادتهم إلى طاولة المفاوضات ونجح في ذلك بدون أن يخبر المؤتمرين عن مضمون الاتفاق الذي حصل مع الرافضين الجنوبيين، فعل ذلك حرصا منه على نجاح المهمة فالرئيس المختار كان شديد التعلق بالوحدة الوطنية وسما بنفسه فوق كل العوارض لجمع كل الموريتانيين في المركبة.
فيما يتعلق بقناعاته، فإنه، عكس مآخذ ولد عبدي عليه، كان يعترف بضرورة استعادة الشعب الموريتاني لشخصيته الثقافية "التي بالغ الاستعمار في خنقها".
وفي السنة الموالية (لمؤتمر الطاولة المستديرة) كلفت الإدارة السياسية لحزب الشعب الموريتاني لجنة مخصصة لتقديم اقتراحات حول "ترسيم اللغة العربية والضمانات المطلوبة مقابل ذلك من طرف الأقلية " من السود.
"لن تفرض علينا اللغة العربية"!
إن العربية في الحقيقة، وعكس ما تروجه دعاية حركة فلام الانفصالية، لم تفرض أبدا ولم تستخدم كوسيلة سيطرة أو إقصاء لجزء من الشعب الموريتاني. فالعربية بدلا من ذلك، كانت منذ القرون الوسطى اللغة العالمة لبلاد شنقيط ولسكان فوتا.
ففي مطلع القرن الحادي عشر، في عهد المرابطين، أسقيت هذه البلاد بالثقافة العربية الإسلامية من طرف علماء قادمين من إفريقية وحضرموت، نذكر من مشاهيرهم الجزولي، الحضرمي، إبراهيم الأموي وعبد الرحمان الركاز.
مع قدوم بني حسان في القرن الخامس عشر، أي خمسة قرون تقريبا قبل دخول اللغة الفرنسية على يد ابن كورسكا قزافير كبولاني، كانت العربية هي لغة التواصل لشبه منطقة إفريقيا الغربية، ووليدتها الشعبية " الحسانية" لهجة كل فضاء البيضان.
أضف إلى ذلك أن الإشعاع الثقافي الشنقيطي هو الذي سمح لرجال عظام أمثال الشيخ عمر الفوتي والشيخ سليمان بال والشيخ عبد القادر كان والشيخ أحمد بمبا (يقال إنه من سكان ببابى وتابع دراسته في أبي تلميت)، أن يصبحوا علماء أجلاء.
واليوم، وفي إطار الدولة الحديثة، فإن الأغلبية الساحقة من الشعب الموريتاني هي التي قررت أن اللغة العربية هي لغة الجمهورية طبقا للمادة 6 من دستور 20 يوليو1991 الذي تم التصويت عليه عبر الاستفتاء والذي هو أسمى شكل من أشكال القرارات وأكثرها ديمقراطية أيضا. فلو أن الفرنسية تم ترسيمها بنفس الأسلوب لما أثار ذلك استياء القوميين السود ولما صرحوا بأن هذه اللغة فرضت عليهم لأن إبعاد العربية وإحلال الفرنسية محلها هو هدفهم في الماضي وسيظل كذلك.
وإذا عدنا إلى الفترة ما قبل تبني الديمقراطية، في عهد الحزب الواحد، فان ترسيم اللغة العربية تم من خلال القانون رقم 65.026 بتاريخ 30يناير 1965 المحدد لمذهب الحزب، الذي هو حزب الدولة".
وللتذكير فإن لغة المستعمر دخلت إلى أرض البيضان في نهاية القرن التاسع عشر واسترجعت موريتانيا سيادتها سنة 1960 أي منذ خمسين سنة. وهي مدة قصيرة جدا ليتم فيها تجذر نهائي للغة أجنبية.
وعلى كل حال فإبان ذهاب الفرنسيين لم تكن لغتهم مستخدمة إلا من طرف أفراد قلائل عشرات المترجمين، هم شراح لا مترجمون. بالإضافة إلى مئات الموظفين المساعدين أكثريتهم مجلوبة من إفريقيا الغربية الفرنسية. أما الرئيس المختار فكان من أوائل الحاصلين على شهادة البكالوريا ومن أوائل الأطر الجامعيين في البلد.
انطلاقا من هذه الحصيلة يمكن القول بحق إن ترسيم الفرنسية كان حصريا خيارا سياسيا نابعا من إرادة أفراد وضد إرادة الأغلبية الساحقة. ورؤساؤنا حين يلقون خطابهم بالفرنسية لم يكونوا يوجهونه للأمة أبدا ولكن لشرذمة من موظفي الإدارة وتلاميذة التعليم الثانوي.
فالإنتاج الفكري هو الآخر لم يكن أفضل حال. بحيث لم يكن يوجد أدب موريتاني باللغة الفرنسية ولا إنتاج ثقافي أيا كانت طبيعته باللغة الفرنسية. هذه الحصيلة الضئيلة كانت طبيعية لأن الوجود الاستعماري الفرنسي كان سطحيا ومقتصرا على عدة مراكز إدارية على مستوى عواصم الولايات، تضاف إلى ذلك تغطية مدرسية محدودة لا تشمل إلا تلاميذ قلة من أبناء الوجهاء أساسا، في مدارس نادرة ومتناثرة على امتداد التراب الوطني.
فيما يتعلق بالتعريب القسري الذي لا ينفك يتحدث عنه نشطاء " افلام"، ما هو ببساطة سوى نوع من زرع الغموض في الأذهان بخلطهم المتعمد بين استخدام اللغة العربية والتعصب الإثني. إنهم يحاولون إعطاء انطباع بأن العربية لغة أجنبية دخيلة بدأ تدريسها فقط منذ الستينيات، هذا في الوقت الذي كانت العربية لغة التواصل بين شعوب هذه البلاد، ومن بينهم الزنوج الموريتانيين، منذ القرن العاشر على الأقل مع انتشار الإسلام في عهد المرابطين. ومن جهة أخرى فإنهم يوهمون الناس أن كل من يدرس العربية يصبح تلقائيا عربيا، في هذه الحالة إذا اعتمدنا نفس المنطق يصبح كل من يدرس الفرنسية يعتبر فرنسيا أي شخصا مسلوب الهوية ومن ثم تصبح الفرانكفونية بحسب هذا المنطق هوية جديدة إفريقية بدلا من الهويات الثقافية الزنجية الإفريقية.
الحقيقة هي أن الوضع هو عكس ما يريد دعاة "افلام " تصويره، فموريتانيا أصبحت ناطقة بالفرنسية استجابة لإرادة المكون الأسود: فالموظفون الزنوج الموريتانيون من خريجي المدرسة الاستعمارية يريدون المحافظة على ما تمنحه إياهم الهيمنة المطلقة للغة الفرنسية في الإدارة من امتيازات. ومعروف أنه إبان الفترة الاستعمارية وحتى التسعينات نتيجة "تأخر التمدرس ـ بالفرنسية ـ في أوساط الناطقين الإدارة الفرنسية إلى اكتتاب أغلبية موظفيها والوكلاء المحليين من سكان الجنوب الموريتاني".
هنا يكمن إلى حد كبير تفسير معركة لي الذراع المستمرة بين أنصار الهيمنة المطلقة للفرنسية على مستوى الإدارة والتعليم من جهة، والمطالبين بالعربية أو على الأصح بالازدواجية الفرنسية العربية في المجالين السابقين من جهة أخرى. ينضاف إلى ما تقدم نضال أعداء العربية ضد ما أسموه خطر سلب الهوية. إن مناهضي "التعريب القسري " الأكثر ضراوة وجوقة دعاة "الفرنسية القسرية " يعتبرون أن تعلم الإثنيات الزنجية الموريتانية للعربية يعني نهايتها كحقيقة إثنية ثقافية.
إننا نلاحظ أن دول إفريقيا السوداء تدرس اللغات الأوروبية وتستخدمها لضروراتها الإدارية، هل يعني ذلك أن الشعوب الإفريقية مسلوبة الهوية؟ إطلاقا لا. فالدول الإفريقية محتفظة بخصوصيتها اللغوية والثقافية والخريطة الإثنية الإفريقية ما زالت كاملة والانفتاح على الآخر لم يقض على أي إثنية.
أما الحجة الثانية، والتي لا تقل مكرا ويتذرع بها محاربو العربية فإنها تدعي أن التلاميذ الزنوج إذا تلقوا تعليمهم باللغة العربية مع نظرائهم من العرب سيكون هؤلاء تلقائيا أوفر منهم حظا. في هذا الاستنتاج نلمح أيضا نوعا من التكلف. فالعنصر اللفظي الذي يمنح تقدما لأبناء البيضان بحسب الإثنيتين من "الفلان " و "تكرور" ليس في الحقيقة حاسما و " أصحاب الاختصاص يعتبرون أن العنصر الحاسم في الدراسة هو ذكاء الطفل وعمله، بغض النظر عن أصوله الأثنية".
هنا عين الحقيقة. فالأفارقة والعرب يتكلمون الفرنسية بنبرة تفخم "الراء" ولا يشكل ذلك عائقا دراسيا. إن هذه الإعاقة المزعومة لم تمنع السنغالي ليبول سيدار سينقور واللبناني أمين معلوف من تبوئ مقعديهما في الأكاديمية الفرنسية.
الفلان والتكرور لايعرفون البولارية
إن أقوام " افلام" يبالغون حين يذهبون إلى إيهام الآخرين بأن كل " البولار" لهم معرفة كاملة بلغة الفلان لأنها لغتهم الأم، كما لو ادعى كل العرب أنهم الخليل ابن أحمد الفراهيدي أو سيبويه.
صحيح أن اللغة الأم هي التي يفقه الطفل قبل أن يدخل المدرسة بلا مجهود ولا تدخل تربوي ولكنها لا تعلمه القراءة ولا الكتابة، ناهيك عن معرفة ما تحويه الكتب، من أجل معرفة لغة والتحكم فيها، لابد من دراستها وهذا لا ينطبق على المتكلمين باللهجات. فهذه، قبل الدخول في مرحلة تدريسها، تحتاج أن تقنن.
عندنا في موريتانيا عدد محدود من الباحثين في مجال الألسنية وفي تقنيات تعليم اللغات هم من توصلوا إلى معرفة قواعد سيرها بعد أن عكفوا على دراستها النظرية. كل من سواهم ما زالوا في مرحلة الكلام بعيدا عن التحكم في اللغة. فالبولاري الموريتاني لا يتقن فقه التحدث بها. لأنه حتى الكلام بالإشارة هو جملة من الإشارات دقيقة الإعداد وتتطلب دراسة لأنها ليست مستمدة من الأم. كمثال على ذلك تحضرني حكاية طريفة وذات مدلول وقعت مرة إبان تأبين الزعيم الراحل نلسون مانديلا. تقدم شاب من تلقاء نفسه لنقل وقائع الحفل بلغة الإشارة. تبين للصم والبكم عند أول وهلة ألا تطابق بين حركاته وما يراد نقله. وبعد التحقق تبين أنه غير مؤهل وأنه إنما كان يتحرك عن غير هدى ويتخبط بحركات خالية من المعنى بل جارحة أحيانا في حق مدعوين محترمين من بينهم رؤساء دول قد تشير إيماءاته تجاههم إلى حماقات من نوع "أنتم مغفلون " ونحوذك.
هذا يعني ببساطة أن اللغة علم ومن لم يدرسها لا سبيل له لمعرفتها.
إن لغة تنتظر دعم الدولة هي لغة في خطر
إن لغة الفلان وأغلبية اللغات الإفريقية كلها مازالت في مرحلة انتقالية. لقد تجاوزت مرحلة الشفهية ولكنها لم تبالغ بعد درجة النضج التي تسمح بإدراجها في البرامج المدرسية واعتبارها لغات تعليم وعمل وعلم. هذا هو حالها اليوم في غينيا ومالي والسنغال، اقتصارا على الدول المجاورة لموريتانيا.
أما في موريتانيا فإن معهد اللغات الوطنية الذي تم افتتاحه سنة 1981 من أجل تطوير لغات البولار، السوننكى، والولف قد قطع شوطا على الطريق وأصبحت هذه اللغات لغات وطنية كما ينص على ذلك دستور 20يوليو1991. أضف إلى ذلك أن وسائل الإعلام العمومي مفتوحة أمام كل الفئات والإثنيات الثقافية الوطنية وهي تشارك "تماما في كل المظاهر الاجتماعية" من دون تدخل أو تمييز طبقا للقانون الدولي والمعاهدات المتعلقة باحترام التنوع الثقافي والأقليات العرقية. صحيح أن البولارية والسوننكية والولفية لم يتم رفعها إلى مستوى لغات رسمية في موريتانيا ولكن حالهم غير مختلف عن ذلك في كل من غينيا ومالي والسينغال وفي عموم إفريقيا، فلما التركيز إذا في هذا المطلب على موريتانيا بالذات؟
وللتنبيه، نقول إن الترسيم ليس كل شيء بالنسبة للغة، وإن كل لغة قادرة أن تبرهن على ديناميكيتها بشكل آخر. يمكن أن نعبر، ونبدع وننتج وننشر بلغة حتى وإن لم تكن لغة الإدارة.
إن العرب الفلسطينيين وهم يخضعون للاحتلال الإسرائيلي، ساهموا بإنتاج أدبي زاخر وشعر نضالي وافر رفع مشعله الشاعر المرحوم محمود درويش.
وبدورهم فإن الأتراك وإن سيطروا على العرب في عهد العثمانيين، إلا أن العرب استطاعوا أن يؤثروا عليهم تأثيرا عميقا نابعا من قوة لغتهم
وثقافتهم. وفي هذا الباب نشير إلى أن الحروف العربية في تركيا لم يتم استبدالها بالحروف اللاتينية إلا مع وصول مصطفى أتاتورك إلى السلطة.
إن فرض التراجع عن لغة ليس بالأمر الهين، فالاستعمار الفرنسي، بالرغم من المجهود الكبير من أجل تقويض حضور العربية، فشل في تحويل اهتمام الشعب الجزائري عن لغته وبالرغم من ليل الاستعمار الطويل الذي خيم على كل العالم العربي، فإن اللغة العربية مازالت صامدة وتحتل موقعا ممتازا في الترتيب اللغوي العالمي.
ثم إن الديناميكية والإبداع الفكري لا يمنحان بقرار بل يحصلان تلقائيا من دون مساعدة الإدارة والدولة. ولهذا يلاحظ أن البيضان مع أنهم بداة، لم ينقص ذلك من مستوى إنتاجهم الفكري والأدبي والديني، ولم ينتظروا مولد الدولة لنشر اللغة العربية والإنتاج بها في مواضيع مختلفة دينية ولغوية وغيرها. هؤلاء البداة يتعلمون مشاة وعلى ظهور جمالهم وتحت الخيمة، وفوق الكثيب وفي كل مكان ولم يتوقفوا عن نشر العلم، وفي مكتبات مدنهم القديمة كوادان، وشنقيط، وتشيت، وولاته تنام المخطوطات منذ قرون كما شهد بذلك مراسل لجريدة L’Express كان قد كتب:
" في دور صغيرة من لبن من طين تحفظ 6000 كتاب ما تزال سليمة منذ القرن الثاني عشر، كتاريخ مفترض لم يسبق أن أجري فحص للتأكد منه. كل هذا التراث ملكية لثماني أسر والمجموعة الأكبر منه وعددها ألف وستة مائة كتاب، يملكها محمد ولد حبت ويسهر على حفظها في دواليب من حديد وكل حمايتها تتمثل في اظرفة من كارتون كثيف على شكل صناديق صغيرة".
مكتبات الصحراء كانت حقيقة وهي شاهد على تجذر التعليم الأصلي في بلاد شنقيط قرونا عديدة قبل المدرسة الاستعمارية. إنها المحاظر التي خرجت أفواجا من العلماء والشعراء، وكانت في الصحاري بمثابة جامعات ساهمت في نشر المعرفة في موريتانيا وفي كل أقطار شبه منطقة إفريقيا الغربية. ففعاليتها لا تحتاج إلى برهان كما تشهد على ذلك هاتان الحكايتان:
في الستينات قام أحد مراسلي المجلة الكويتية "العربي " برحلة استكشافية في موريتانيا، كان ذلك قبل أن تشهد منطقة الخليج نهضتها الاقتصادية والثقافية الحالية، كان يتصور أن مواهب الشناقطة في مجال اللغة والأدب العربي منحطة شيئا ما هي الأخرى، فما كان منه في نهاية مهمته إلا أن كتب تحقيقا صحفيا عن بلاد شنقيط، لقبها فيه "ببلاد المليون شاعر".
مفاجأة أخرى في السبعينيات كانت في انتظار محمد شريف، وزير التعليم الليبي. لقد شيد بلده أول ثانوية لتعليم اللغة العربية في موريتانيا وأرسل مجموعة من الأساتذة، من بينهم أساتذة للغة العربية للتدريس فيها، كان في ذلك جهل كبير بحقيقة الشبان الشناقطة.
التلاميذ الموريتانيون، علاوة على حفظ القرآن، كان عندهم إلمام كبير بالشعر الجاهلي وبالمعلقات وبشعراء كبار أمثال امرئ القيس، وأبي نواس، والمتنبي وممثلي الشعر الحديث من أمثال أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، ومعروف الرصافي.
كانوا يعرفون أيضا ألفية ابن مالك والتي تضع جميع القواعد النحوية وتأليف سيبويه المعنون " الكتاب "، الشيء الذي انبهر به الأساتذة الليبيون وقرروا الرحيل إلى بلادهم على ألا يعودوا إلى موريتانيا إن كان الأمر يتعلق بتعليم العربية لأبنائها.
مهما يكن من أمر فإن الصراخ المندد بالعنصرية لا يعفي من واجب القيام بالمجهود الفكري والعلمي، إنها حجة داحضة للتغطية على النواقص، وعلى الفلان والتكرور أن يتوجهوا إلى المجهود الأكاديمي لرفع التحدي اللغوي.
إن آلاف اللغات الإفريقية السوداء ما زالت تتطلب من أهلها مزيدا من العمل والوقت والعناء العلمي لتشهد النهضة المطلوبة، وهذا ما لم يلاحظ حتى الآن حصوله في أي مكان من إفريقيا ولا في موريتانيا خصوصا حيث لا يوجد إلا عدد قليل من المعلمين حافزهم سياسي بحت وشغلهم الشاغل هو تقنين البولارية، والسوننكية والولفية وفي أغلب الأحوال، من دون وسائل مقنعة.
الحقيقة أن أطر الجنوب لا يهتمون إلا بالفرنسية في وقت يدعون أنهم يعملون لتطوير لغاتهم. الآن وفي مطلع القرن الحادي والعشرين، ماتزال المكتبات ومحال بيع الكتب، والأكشاك خالية من إصدارات باللغات الوطنية (موسوعات، معجمات، مختارات، روايات مختارات شعرية، جرائد علمية، سجلات قانون واقتصاد، أخبار تاريخية، كتب مدرسية، مراجع أكاديمية أو غيرها في كل مواضيع المعرفة).
ولا توجد كذلك أكاديمية للبولارية، والسوننكية ، والولفية أو أي شكل من أشكال المؤسسات العلمية المرجعية في هذا المجال .
إن عملا جادا وهيئات مرجعية من هذا النوع ضروريان، قبل التفكير في تغيير وضعية لغة ما إلى لغة إدارة وتعليم، وعلوم. كل الدول الإفريقية تقريبا تفهمت هذا الواقع، ولاحظت أن الجهود التي يجب القيام بها لتطوير لغاتها جهود هائلة وتتطلب الوقت والوسائل البشرية والمادية.
غداة الاستقلال وقع اختيار هذه الدول على لغات المستعمر، وانتهى الأمر منذ زمان، إلا في موريتانيا حيث ما يزال مناضلو الحركات الإثنية الزنجية يظنون أنهم قادرون على إزاحة الجبال، وبلغات ما زالت تتعثر في مرحلة الكتابة، يريدون السير بعيدا وبسرعة والدخول في منافسة مع أكبر اللغات على وجه المعمورة: الإنكليزية، العربية، الصينية، الإسبانية الفرنسية، والروسية. هذا إفراط!
عدم الانسجام في المجال اللغوي
توجد الآن قاعدة شبه كونية، طبقتها كل القوى العظمى وتبعتها أغلبية الدول الأخرى ماعدا استثناءات نادرة. إنها قاعدة اعتماد لغة واحدة في الميدان الرسمي والإداري.
في فرنسا بالرغم من وجود لغات قديمة برتون، كروس، أوكستان، تاهتيان، مرتنك، قوياني، رئينيونيى، بقيت الفرنسية اللغة الرسمية الوحيدة. فالدستور الفرنسي ال صادر4 اكتوبر 1958، في مادته 2 يقول: لغة الجمهورية هي الفرنسية.
المملكة المتحدة وروسيا الفدرالية، كل هذه الدول لها لغة رسمية واحدة. جمهورية الصين الشعبية التي يبلغ عدد سكانها مليارا وأربع مائة مليون نسمة يتكلمون 81 لغة، لغتها الرسمية «الماندارينيه". الولايات المتحدة الأمريكية لم تحدد في دستورها أن الإنكليزية هي اللغة الرسمية للدولة الفدرالية الأمريكية، لكنها، عملت بذلك فالإنكليزية هي لغة الإدارة حصريا وعمليا.
وقد جرت العادة بأن تعتبر لغة المجموعة الأكثر عددا لغة رسمية إلا في إفريقيا نتيجة تخلف اللغات الوطنية فيها، مع أن بعضها فرض نفسه كلغات تواصل وتفاهم بين مختلف الإثنيات في دول غلبت فيها التعددية الإثنية.
إن الذين يعارضون اعتماد لغة واحدة رسمية يتذرعون بالاستثناءات ويذكرون أمثلة: كندا وسويسرا وبلجيكا. والحقيقة أن هذه حالات قليلة يتعلق الأمر فيها بمجموعات متجانسة لغويا وثقافيا وتعيش كل منها في حيز جغرافي خاص بها ولها استقلالها ضمن اتحاد فيدرالي مع مجموعات أخرى تتميز بنفس الخصائص وهذا لا ينطبق على موريتانيا فهي دولة موحدة. أما سكان الضفة فأغلبيتهم خارج الدولة والموجود منهم داخلها له حضور متناثر داخل التراب الوطني ولا يتمتعون بمدن خاصة بهم وإن كانت لهم قرى مستقلة.
التوحيد اللغوي
تضم إفريقيا السوداء ما يربو على ألفي لغة، ففي نيجيريا خمس مائة وعشرون لغة مقننة وعشرين لغة في السينغال ونفس العدد في مالي ونفسه في غينيا، مقابل أربع لغات في موريتانيا، وهي أقل الدول الإفريقية إثنيات ولغات. وحسب دراسة قامت بها إذاعة فرنسا الدولية، لا توجد البولارية على لائحة اللغات الأكثر استخداما في افريقيا بينما توجد العربية على رأسها.
تضم افريقيا ألفي لغة مائة منها يتكلمها أكثر من مليون متكلم. فاللغات الأكثر استخداما قد تكون بالترتيب حسب مصادر مختلفة وأحيانا متضاربة ’ العربية (أكثر من 150مليون متكلم) الكسواحيلية (أكثر من مائة مليون متكلم)، الامهرية (بين 28و50مليون) الهاوسا (مابين18و50مليون) اليوروبا (30 مليون) الأورومو (25مليون) الإيبو (24مليون) قبل ال لينكالا( مابين 2إلى 25مليون ) حسب المصادر ثم الكنيارواندا و الكرندي (مابين 15 إلى 20مليون ) لغتين متآخيتين تتقاسمان مع الإززولو و الإزكسهوزا (على التوالي 10و8 ملايين ناطق )، الانتماء إلى أكبر فروع لغة البانتو. .
بعض دعاة الوحدة الإفريقية من أمثال سينكور، مبتكر مفهوم الزنجية ومودبو كيتا، وشيخ تورى وانكروما وانييرري وآخرون لم يكن غائبا عن أذهانهم أن استقلال إفريقيا يظل ناقصا ما دامت لا تتمتع بالسيادة في
مجال اللغة. من حيث الجوهر كان معهم الحق ولكن القضية من الناحية العملية، تبدو بمثابة "معضلة صينية".
ماذا يمكن فعله مع أكثر من ألفي لغة كلها ما تزال في طور الشفهية أو ما يقارب ذلك؟ من الأفارقة من اقترح الإبقاء على خمس لغات إفريقية متناسبة مع اللغات الأساسية في القارة للحد من التشرذم في المجال اللغوي، بينما اقترح آخرون ترك اللغات الإفريقية الأكثر ديناميكية تفرض نفسها.
في تانزانيا جعل الرئيس انييررى الملقب معلمو من بلده أحد الاستثناءات النادرة في القارة; لم يتأخر في فهم أن أول ما يجب عمله، في بلد يتكلم ساكنته مائة لغة مختلفة، هو تأسيس لغة مشتركة فكان اختيار لغة السواحيلي وهي أما انيرري نفسه فهو زناكي، إثنية أقلية وبالرغم من ذلك فإنه غداة الاستقلال أعلن السواحيلي لغة رسمية بجانب الإنكليزية. واليوم، السواحيلي لغة مسيطرة في تانزانيا وأصبحت اللغة الأكثر استخداما في دول شرق افريقيا.
وهكذا فإن انيررى حقق أفضل مما ذهب إليه مانديلا وبول كاكامى. مانديلا قضى على نظام التمييز العنصري ولكن الإنكليزية ما زالت تتقدم في مسيرتها المظفرة في جنوب إفريقيا وكاكامى بدوره حقق تقدما كبيرا في جميع مناحي الحياة في رواندا ما عدا ميدان النهضة اللغوية. فالكنيارواندا وهي لغة أخرى من لغات بانتو، بقيت في رتبة دنيا بالنسبة للإنكليزية.
هل كان لهذين الزعيمين النادرين والفريدين في وطنتيهما خيار آخر؟
بعض الدول الإفريقية قررت إقامة لغة إفريقية مشتركة: بمبارا في مالي وولف في السينغال مع اعتماد الفرنسية على المستويين الرسمي والتعليمي.
في موريتانيا مع وجود أربع لغات وطنية لم نتوصل إلى اعتماد العربية أو الحسانية الشعبية لغة جامعة بسبب التعصب الثقافي. فالقومي الزنجي الموريتاني عندما يطرح سؤال هل موريتانيا بلد ناطق بالفرنسية يجيب مبتسما "نعم، طبعا". وحين يسأل هل هو بلد ناطق بالعربية؟
يجيب "نعم ولكن " توجد أيضا البولارية والسوننكية والولفية. وبعبارة اخرى: إما الفرنسية وحدها وإما اللغات الوطنية كلها!
ولإرضاء ضميره، يردد القومي الزنجي في كل مكان أن الفرنسية هي "الملاذ" بالنسبة له. عن ماذا هو هارب ومن الذي يطارده؟ أو يقول أيضا هي اللغة " الحكم " بالنسبة لي. أيظن نفسه في مباراة!؟ وإن قال إنها لغة الانفتاح، أليست العربية هي رابع أو خامس لغة في ترتيب اللغات الأكثر استخداما في العالم؟
لنفترض أن اللغات الوطنية الموريتانية بلغت الدرجة المطلوبة من النضج لتصبح لغات تعليم وإدارة، وأن الدولة اعتمدتها. أليس من المشروع في هذه الحالة أن يحقق تلامذة وطلاب المجموعات اللغوية المختلفة دراساتهم من الابتدائية إلى الجامعية كل في لغته؟ وعندما يحصلون على شهادات أليس من المشروع أيضا أن تدمجهما الدولة في الحياة المهنية؟
السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو كيف سيتفاهم كل هؤلاء الأطر وكيف للإدارة أن تسير في هذا الجو من عدم التناغم وتنافر الأصوات؟
إن التعددية اللغوية تساوي منطقيا الفوضى والبلبلة، لأنها تعني أن كل واحد سيتكلم بلغته الأم متجاهلا لغة الآخر.
على المستوى الشعبي يبقى الخيار حرا وفي التحليل النهائي ستفرض إحدى اللغات نفسها كلغة تواصل مشتركة. ولكن على المستوى العمومي، يجب أن تقوم الدولة بدورها التنظيمي وتحسم الأمر بحيث يجب اعتمد أحد الاختيارات التالية مع العلم أنه لا يمكن الخلط بينها:
ـ العربية اللغة الرسمية الواحدة: هذا الخيار يرفضه القوميون الزنوج. الاعتراف بحصرية العربية يعني بالنسبة لهم تعريب بلاد أجدادهم التي احتلتها صنهاجة منذ ألف عام. إنهم يعتبرون المادة 6 من الدستور القاضية بترسيم العربية إحدى تجليات التمييز العنصري وتجعل منهم مواطنين من الدرجة الثانية لأن لغتهم الأم ليست رسمية.
من الذي فعل مثل هذا في إفريقيا؟ لا يوجد أو يكاد يكون معدوما!
ـ الازدواجية العربية الفرنسية خيار أثبت فشله. فالزنوج خيارهم الفرنسية والعرب متشبثون بلغة أجدادهم. أما تبني لغة مشتركة حيادية، الفرنسية تحديدا، فيعني إقصاء الأغلبية الثقافية من الناطقين بالعربية. ومن المعلوم ضرورة أن هؤلاء لن يصدقوا في أنفسهم مثل " اكْربْوّىْ" الرجل المشهور الذي من شدة خوفه من البلل ألقى بنفسه في النهر: لا يتصور أن تذهب
بنا الكبرياء الإثنية المؤدية إلى طريق مسدود فيما الوطنية والإلغاء بأنفسنا في أحضان لغة أجنبية ولغة القوى الاستعمارية السابقة.
الترجمة تشكل خيانة لللحمة الوطنية
إن القوميين الزنوج الموريتانيين خلافا لتوجه كل القوميين الأفارقة يناضلون منذ استقلال بلدهم، عكس ما أوصلت إليه حكمة وبعد نظر " انيررى "، لخلق استثناء موريتانيا وما يعرف ب "البانتوستانية " اللغوية. وبما أن أهدافهم الأثنية تتعارض مع الانتظام والانسجام فقد رفعوا شعار احترام التنوع الثقافي، يحكمون به على مجموعتهم الوطنية بالتجزؤ المبني على تعددية لغوية خرساء.
ومن حيث الطابع الاستثنائي، حدث عن خطة هؤلاء ولا حرج. ففي السينغال المجاور يفوق عدد اللغات الوطنية خمس أو ست مرات عددها في موريتانيا، ورغم كل هذا التنوع، فالشعب السنغالي يتفاهم من دون تعقد ولا صدام عبر لغة واحدة هي "الولفية" ولا يوجد مواطن في هذا البلد وإن كان من أصل عربي موريتاني، أو لبناني، أو مغربي بإمكانه أن ينتهك هذا القانون.
وما من أحد يمكنه التفكير في الخروج على هذه القاعدة اللهم من كان من عتاة المتعصبين الفئويين.
وأثناء الحملة الإنتخابية الأخيرة لرئاسيات 2019 شاهد الموريتانيون كيف أن الأطر السياسيين من الفلان وتكارير وهم يجوبون الضفة، جيئة وذهابا لكسب الناخبين كانوا يخطبون بالوليفة. والرئيس " ماكي سال " نفسه لم يتخلف عن القاعدة، وبصفة عامة كلما أراد أن يتوجه إلى شعبه خاطبه، وهو التكروري الأصل، بلغة" الولوف". زد على ذلك أن البرلمان ;السنغالي وهو الممثلية الوطنية لهذا الشعب متعدد الإثنيات والثقافات، من المستحيل أن ترى داخله نائبا يرتدى سماعة رأسية للترجمة أو تسمع صوتا نشازا يطالب بالترجمة، بينما في هذا الجانب من النهر، تسارع أغلبية أطر الجنوب بالتعبير عن امتعاضها والاحتجاج على الإقصاء كلما عبر مواطنو الشمال عن رأيهم بالعربية أو الحسانية، فبدون ترجمة، يتحول أي اجتماع أو مهرجان في أي إدارة وعلى أي مستوى إلى حوار الطرشان. ولا تسلم جلسات البرلمان واجتماعات مجلس الوزراء من هذا
الواقع فنواب الضفة يستخدمون سماعات رأسية للترجمة الفورية والوزراء من نفس المنطقة توفر لهم كل البيانات مترجمة بالفرنسية. وعلى الشاشة لا يتكلم أطر ورجال السياسة من الجنوب، غالبا إلا بالفرنسية.
وبما أن المطالبة بالترجمة تكاد تكون مطلقة فإن المساجد هي الأخرى قد لا تسلم منها وسيطالب البعض، حسب هذا المنطق بترجمة خطب صلاة الجمعة.
ومن الغريب أن الزنوج الإثنيين الذين لهم إلمام بالعربية يتظاهرون دائما بجهلها، كما يتضح من هذه المصادفة: ذهب أحد الأطر السامين في الدولة من سكان الضفة لتأدية فريضة الحج، وكان دائما يتذرع بأنه لا يفهم الحسانية ويطالب بالترجمة، وذهب أحد زملائه البيضان لنفس الغرض وقدم إلى البلاد المقدسة بعده فإذا هو بزميله بين حجاج من المغرب يتحاورون باللهجة الشعبية!
حالة اتحاد قوى التقدم
أسست مجموعة من شباب العرب القوميين معهم مجموعة من القوميين السود وبعض اليساريين، الحركة الوطنية الديمقراطية التي تحولت في عهد الديمقراطية إلى حزب يسمى اتحاد قوى التقدم. هؤلاء الرجال والنساء الوطنيين كانوا يطمحون إلى النهوض بمجتمعهم والدفع به إلى الأمام في وحدة وانسجام.
اليوم وبعد أربعين سنة من النضال المشترك ما يزال هؤلاء المناضلون لا يتفاهمون فيما بينهم إلا من خلال الترجمة، لا يوجد قسم إثني من هذا الحزب مستعد لتقديم تنازل يسمح بالاتفاق مع باقي زملائه على تبني لغة مشتركة للتفاهم داخل مجموعتهم أولا، ومن خلالهم لتوطيد لحمة شعبهم المتعدد اللغات ثانيا. وهكذا أصبح هذا الحزب مدرسة في تبني الترجمة إلى أن جعل من الفوضى اللغوية محمدة وطنية.
وماذا لو أن البيضان رفضوا "تأدية الخدمة" وتوقفوا عن الترجمة من العربية إلى الفرنسية ومن الفرنسية إلى العربية. كيف سيتم التواصل بين الموريتانيين حينئذ؟
الترجمة غير مناسبة في حياة أمة. إنها تكون مقبولة بينها وبين الآخرين من خارجها ولكن بين المكونات الاجتماعية للامة الواحدة تكون الترجمة تعبيرا عن فشل قاتل في الاندماج.
من هو الشوفيني؟
الشوفيني تطلق على كل مواطن مالي ناضج يرفض الكلام بالبمبارية لأن البمباره لايتكلمون لغته الأم ويريد علاوة على ذلك فرض لغة " أجنبية "يسميها لغة-حكما.
والشوفيني أيضا هو كل مواطن سنيغالي ناضج يرفض لغة وولوف لنفس الأسباب. والشوفيني أيضا هو كل موريتاني ناضج يسلك نفس السلوك ازدراء بدستور بلده وبالتاريخ والواقع المحيط به.
مع أن الموريتانيين يمتازون عن غيرهم من بمبارا وولف بأن كل الأطفال الموريتانيين يذهبون إلى المحظرة في سن مبكرة لتعلم القرءان والعربية ويتابعون دراستها في نظام تعليمي مزدوج فرنسي ـ عربي.
وحتى وإن لم تكن المدرسة هكذا فإن من عاش في الصين لفترة طويلة ينتهي به الأمر بمعرفة الماندارينية وإن لم يذهب إلى المدرسة لأن الملازمة الطويلة هي الأخرى مدرسة.
كيف لأحد ألا ينجح في تعلم لغة إذا كان المحيط مؤهِّلا لذلك؟ فكل شيء يساعد على معرفة اللغة والتواصل بها، من شارع، وسوق، وصحافة، وإذاعة وتلفزة.
إن أمة تتقدم وهي تجر معها فيلقا من المترجمين والمفسرين، كقوة فصل ووساطة، هذه الأمة ستجد صعوبة في التقدم معا، بعد ستين سنة من عمر الدولة مازلنا نراوح في مكاننا بالنسبة للقضية اللغوية وهي قضية مثيرة للانشطار.
ترسيم الحسانية! شعار " افلام الجديد "
وضع العوائق أمام نفوذ اللغة العربية هو الهدف الأساسي للقوميين من الفلان وتكرور والذي في سبيله يعبئون كل الوسائل الممكنة والغريبة.
بعد استخدام السلاح الجيني وترويجهم في كل المنابر أن البيضان ليسوا إلا بربار وأنهم يريدون التمسك بلغة لا تربطهم بها رابطة، وهي حجة تنقلب ضدهم. لأن "الهالبولار في الحقيقة خليط من الفلان والتكرور والمانديك والسرير والولف ... وبعد أن سقطت في ايديهم كل الحجج، أقدموا على عرض جديد أكثر سخافة. هاهم الآن يرمون بآخر سهم في قوسهم مطالبين بتدريس وترسيم الحسانية. وهذا الشعار لا يماثله إلا أن طالب مناضلو زنوج أمريكا من سكان برونكس أو هارليم بمكان تحت الشمس للهجة slang (لهجة في البلاد الإنكليزية) من أجل مضايقة اللغة الإنكليزية الأصيلة، أو معارضة ال (colloquial English) ب. Formal English
من يمكنه أن يتصور أن أحدا مهما بلغ من الجهل لا يدرك "أن العربية الفصحى ليست لغة شعبية وأن اللهجات المتولدة منها متعددة تعدد المناطق العربية؟"
وهذا أمر طبيعي "فكل لغة بلغت مستوى معين من الانتشار الديمغرافي والجغرافي، تكون لها طبيعيا لهجات تابعة " . وعليه فإن الحسانية ليست سوى لهجة خاصة بالبيضان في موريتانيا والصحراء وجزء من أزواد وجيوب أخرى في شمال وغرب إفريقيا ولكنها كأخواتها من اللهجات في المغرب، والعراق، ومصر، والخليج، وسوريا، ليست لغة كاملة العضوية. وبتعبير آخر فالحسانية شكل مبسط ومرن من العربية الفصحى على أنها مع ذلك، كافية لتمكين ذويها من التفاهم مع 400 مليون من الناطقين بالعربية.
فالناطق بالحسانية وهو يجوب العالم العربي لن يحتاج أبدا إلى خدمات مترجم للتواصل مع الآخر وبالمقابل لن يحتاج ناطق بالعربية في زيارة إلى موريتانيا إلى مترجم للتفاهم مع محاوريه. ولو أن جميع الزنوج الموريتانيين تعلموا الحسانية بدون تعقد لتم الاستغناء عن الترجمة وهي التي ما تزال الوسيلة الوحيدة للتفاهم.
ولنفترض أننا تخلينا عن العربية الفصحى لصالح اللهجات المتفرعة عنها، في هذه الحالة يتعين علينا أن نخترع كتابة جديدة وقواعد نحوية جديدة، وقواعد إملائية مقبولة. كل هذا لماذا؟
لتكرار وللاستمرار في التشتت اللغوي الذي تشهده إفريقيا السوداء؟ إن المطالبة بترسيم الحسانية ضد رغبة البيضان وبهذا الإلحاح، ماهي إلا مناورة تستهدف إقصاء العربية وإنزالها إلى مستوى اللغات الوطنية
الأخرى للتذرع في النهاية بأن مستويات اللغات الوطنية لا تسمح بتدريسها وباعتماد الدولة لها وفي هذه الحالة يُكتفى بالفرنسية وحدها!
فكرة الحسانية لغة كاملة الصلاحية بجانب العربية هو تكرار لخطأ تافه وأحمق. ومهما يكن فإن موريتانيا لن تتنصل أبدا من مرساها العربي ومن ثقافتها العريقة من أجل عرض بهلواني خبيث المغزى.
لو نظرنا إلى القضية اللغوية في موريتانيا بمنظار المدقق أو قربنا الصورة لخلصنا إلى أنها ليست إلا "استنساخا للنزاع العرقي".
اعل ولد اصيبه
موريتانيا: إشكالية التعايش العرقي. ص 83-115