تعد الزراعة فضاء حيويا للتنمية وتحقيق السياسات والأهداف الإنمائية ، وتعتبر خيارا استراتيجيا قويا لتفعيل النمو الاقتصادي ، وتنشيط برامج محاربة الفقر والعوز ، غير أن كل ذلك مرهون بالقطيعة مع ممارسات الماضى ، وماواكبها من قرارات ظرفية وسياسات آنية ارتجالية لا تنفع الناس ولاتمكث فى الأرض ، وفى هذا السياق نأمل أن تشكل الحملة الزراعية لهذه السنة علامة فارقة وتحولا جذريا فى تاريخ مسار الاستراتيجيات التنموية والسياسات الحكومية الموجهة لقطاع الزراعة ، باعتباره رافدا أساسيا من روافد اقتصادنا الوطني.
ولا يخفى الدور المحوري الذي يمكن أن ينهض به قطاع الزراعة بشقيه ؛ المروي والموسمي فى تطوير وتفعيل الاقتصاد الريفي ، وتحقيق الأمن الغذائي ، وتوفير الاكتفاء الذاتي ، وخلق فرص التشغيل ، مما يساهم في تعزيز منظومتنا الاقتصادية والاجتماعية ؛ فى سياق جملة تحولات عميقة وإصلاحات جذرية يتعين القيام بها ، وعلى الرغم من وطأة الجائحة وإكراهاتها وأثر الحرب الأوكرانية وتداعياتها ، يمكن التعويل على الزراعة في إطلاق قاطرة التنمية وبلورة رؤية اقتصادية قادرة على المساهمة فى توفير أهم حاجاتنا الغذائية في الأفق المستقبلي المنظور.
وفى هذا الإطار يتعين العمل على تعميق وتحديث الاستفادة من التنمية الزراعية وتفعيل الولوج إليها ، وعصرنة وترقية نظم إنتاجها واستغلالها وتسويقها وتوزيعها ودعمها وتمويلها ؛ عبر نسج شراكات واسعة ومثمرة وبناءة مع الفاعلين الخصوصيين والمزارعين والشركاء والمانحين والمستثمرين فى هذا القطاع الحيوي ذى الثروة المتجددة والقيمة المضافة العالية.
وتتمتع بلادنا بأراض خصبة وصالحة للزراعة تقدر بأزيد من 500 ألف هكتار ؛ من ضمنها أكثر من 135 ألف هكتار من الأراضي القابلة للري على الضفة الموريتانية من نهر السنغال ، لم يستصلح منها حتى الآن سوى مايزيد على الثلث تقريبا ، وتتنوع الزراعة عندنا من حيث مواردها وروافدها لتشمل الأرز والقمح ومختلف أنواع الحبوب ، فضلا عن قصب السكر والخضروات والبقول والحمضيات والزيتيات والفواكه ، ناهيكم عن ماحبانا الله به من واحات نخيل هائلة تنتج كميات كبيرة من التمور ، كما تتميز التربة الزراعية لدينا بشكل عام -حسب الخبراء والمتخصصين- بكونها ماتزال بكرا وذات إنتاجية عالية وواعدة ، وتحتاج فقط إلى استثمارات ضخمة واستصلاحات زراعية واسعة واستراتيجيات عصرية قائمة على بناء القدرات الذاتية والدعم المؤسسي ، واقتناء التكنولوجيا والمعدات لرفع الإنتاجية ، وحشد وتوجيه الموارد المالية نحو الاستثمار فى الاقتصاد الريفي بالتعاون والتناغم بين الحكومة والقطاع الخاص.
وفى هذا الإطار يتعين إعداد استراتيجية إعلامية مهنية ، بغية التحسيس والتعبئة للانخراط فى هذه الحملة الزراعية ، وإنارة الرأي العام حول غاياتها ومراميها ، فضلا عن ضرورة التعريف بواقع التنمية الزراعية فى البلد ، وتحديد الفرص المتاحة والحوافز المتوفرة فى القطاع ؛ من أجل استقطاب المستثمرين والمهتمين وعقد شراكات مع الممولين والمانحين.
إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتقلب الأسواق الدولية ، ومايعيشه العالم اليوم من أزمات وقلاقل أمنية وتحديات وإشكالات تنموية ، يفرض على البلدان النامية انتهاج آليات وبدائل اقتصادية محلية لمواجهة الأزمات الغذائية الناجمة عن تداعيات الجائحة الصحية وماخلفته من ندرة وغلاء ، وتأثيرات الحرب الأوكرانية وماخلقته من انقطاع لسلاسل الإمداد ، كل ذلك جعل الزراعة المحلية تكتسى فى هذه اللحظة أهمية استراتيجية سيادية ، وتتحول إلى رهان وجودي ومسألة كينونة وبقاء.
د.محمد ولد عابدين
أستاذ جامعي وكاتب صحفي.