الأستاذ المرتضى يكتب: للتذكير/البطاقة الصفراء...

جمعة, 15/07/2022 - 06:36

للتذكير/البطاقة الصفراء...                                              

  كنت أغضب عندما يقول المرحوم كابر هاشم بعد قراءتي بعض محاولاتي الشعرية في برنامج المجلة الثقافية التي كان يشرف عليها في الإذاعة الوطنية، شكرا للشاعر الناشئ فلان ....وتغضبني زميلتي ينصرها بنت محمد محمود عندما تقرأ إحدى محاولاتي القصصية ثم تقول بقلم القاص الناشئ فلان....أمسِ أغضبني الدركي وقد بدا لي في الستين حين قال لي وهو يوقرني: الوالد أين تتجهون....واشتد غضبي من بائع الملابس القديمة وهو كما يبدو ابن السبعين حين استغليت ثمن القميص الوردي وقال : (بابا كم تَاتِ فيه)، وهو يقودني، ويدفع رجالا ونساء من أمامي ليوسع لي الطريق كشيخ أحدب تعثره الشعرة على الفراش....؟؟؟ 
ولعل من أطرف قصص الصراع بين الإنسان والزمن ما وقع لصديقي حين قدم انواكشوط منذ عقدين بعد طول قطيعة، فغيب جسمه في آنسامبل من جيد بازاه، مر على الحلاق، فجرد عارضيه حتى صارا كلسانه، وما زال يأخذ من أطراف لحيته متهيبا حتى لا يرعى مقصه في الحريم، وهو يقول له لا تجزع يا ولدي، زد ما زلت في البلد الآمن، حتى صارت كهلال لم تره إلا مستفيضة من الصبيان أرشدُها مراهقة لم تبلغ من مدارج المعرفة سوى(الضَّطْ يِنْكِطْ وَحْدَهْ مِنْ تَحْتْ)، ثم ركبنا حافلة النقل الحضري بين اكلينيك وتوجنين، ولما كانت المقاعد تغص بالركاب في زحام، وعرق، وريح كريه، بقي واقفا متشبثا بالعمود الحديدي، فظفر برؤية الشوارع، والمارة، ثم فاجأه شيخ كبير قد اشتعل رأسه شيبا، كاد يجزم أنه خاله المولود عام 1918، ينهض من مقعده في سكينة واحديداب،  اقترب الشيخ من صديقي وقال: أيها الوالد أحزنني أن أراكم وقوفا، تفضلوا اجلسوا في مكاني، خسئ أهل هذا الزمان، فقد أجدبوا من المروءات، حتى كبار السن لا يُوَقَّرون، وما زال صديقي يلتفت يمنة ويسرة لا يصدق ما يرى ويسمع، والشيخ يصر قائلا(الوَالدْ مَانِ فِرْ لَيْهِ انْخَلِّيكْ وَاكِفْ، آنَ اتْبَارْكَلَّل مَزِلْتْ اسْغِيرْ وْلُوْكُوفْ ما يْشَلْشَلْنِي)، فلم يجد بدا من إجابته إلى ما طلب...
 اليوم قرب قصر العدل استوقفتني عجوز مُدْنِيَةٌ عليها من جلبابها في غير تقتير، معها امرأة تبدو في عقدها الثالث وأطفال ..قالت لي أستاذ، قالتها على استحياء، وتخفٍّ وراء طرف ملحفتها الزرقاء حتى خلتها ابتلعت آخر الكلمة...طأطأت راسي لها وسلمت عليها بأدب وتوقير، وأنا أختلس النظر إلى تضاريس وجهها لأتبين أي أستاذتَي (الاثنتين) تكون ...فطمة  بنت الميداح، أم خدي بنت شيخنا، ولم تدرسني موريتانية سواهما ...سارعت المرأة - وقد بدا لها أني لم أتبين ما سمعتُ- بالقول : أستاذ أنتم درستموني في الثانوية وكنت في الفصل الخامس آداب وهذه ابنتي وأطفالها، ادعُ الله لنا.....هنا فزعت، وانتبهت، كدت أقول لها أينا درس الآخر؟؟؟ لكني غبت في اللحظة، وخاتلني الهامس العملاق بعزفه الهادئ على قيثارة الزمن، وقد تقطعت أوتار أمسها جزعا، وبقيت أصابعه المرتعشة تتدحرج بين الأوتار المرتخية فلا تسمع إلا أنينا وغصة حنين... 
 أمس غضبنا من الطفولة، فاستنبتنا لحانا قهرا قبل الإبان بالتجريف المتواصل، واليوم نغضب من الكهولة فنحاول مسح لحانا، أو تغطية بياضها بأحمر اللحى، وبين الزمنين ضاع زمن، وفقدنا ذاكرة تذوق عيشنا في الزمن بدل الضائع؟؟؟!!

من صفحة الأستاذ المرتضى محمد أشفاق