دعوت في مقالات سابقة إلى تشكيل حكومة جديدة منسجمة ومتماسكة ؛ قادرة على الإنجاز والأداء والعمل بروح الفريق، رفعا للتحديات ومواكبة للتطلعات وتنفيذا للتعهدات ، وأكدت على ضرورة مؤازرتها بذراع سياسي فعال يكون بحجم المرحلة ومقاسها ، ومشهد إعلامي قوي يعكس قيمها وخطابها، ويمكنني اليوم القول بأن قاعدة هذا الثالوث قد أنجزت - في انتظار اكتمال بنائه الهندسي - وذلك بعد تشكيل حكومة جديدة خرجت من رحم خطابات سياسية وخرجات إعلامية لرئيس الجمهورية، امتازت بمنهج المكاشفة والمصارحة، وأبانت عن إحساس عميق ومرير بالأخلال البنيوية والمشاكل الجوهرية للبلد.
إن بلدنا يمر بلحظة مفصلية وتواجهه تحديات أمنية وتنموية - إقليمية ودولية، وتنتظره استحقاقات مصيرية وأجندات سياسية واقتصادية واجتماعية ضاغطة؛ في مقدمتها تداعيات الجائحة الصحية وانعكاسات الحرب الروسية - الأوكرانية التي ضربت الاقتصادات العالمية، وعمقت أزمة الغلاء وفاقمت صعوبة الحالة المعيشية، فضلا عن الرهانات التنموية والأمنية والمخاطر الجيو - ستراتيجية المحدقة الناجمة عن الانفلات الأمني وحالات التوتر في الجوار الإقليمي جنوبا وشمالا.
وفى ظل هذه الوضعية الإقليمية والدولية الصعبة، يتعين الشروع في إطلاق ورشات تنموية تمهد لعمل مؤسسي جاد؛ يحدث جملة تحولات عميقة وإصلاحات جذرية وشاملة، وسأعرض في هذا المقال لجملة من الأفكار والمقترحات، أراها في طليعة رهانات المرحلة وأولوياتها التي يتعين على الحكومة الجديدة أن تشرع في صياغة مقاربات ناجعة لتحقيقها، وبلورة سياسات فعالة لتنفيذها:
1. الإشراف على تنظيم تشاور وطني شامل يثمر خارطة طريق ناجزة وأجندة توافقية جاهزة؛ مستجيبة لمطالب وتطلعات فرقاء المشهد السياسي إلى خلق إجماع وطني وصياغة "عقد جمهوري" قادر على بناء نظام ديمقراطي صلب وقوي؛ فاللحظة تاريخية من أجل تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري ، وتحتاج فقط إلى نخبة وطنية تقود تحولا مجتمعيا، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية وتعزيز وحدته الوطنية وتماسك لحمته الاجتماعية.
2. وضع وتنفيذ استراتيجات جادة وفعالة لمحاربة الفقر المدقع، وتعزيز نهج التكفل بالمعوزين للتخفيف من وطأة الفاقة والبؤس الاجتماعي؛ ويتعين في هذا السياق مراجعة برامج وسياسات "تآزر" وتفعيلها وتنويعها لتصبح آلياتها أكثر نجاعة وسرعة في دعم ومؤازرة الفئات الهشة والمغبونة، مع التنويه ببعض المكاسب الطيبة المتحققة على مستوى السياسات الاجتماعية ومحاربة الفقر في النصف الأول من المأمورية.
3. تعزيز المقاربة الأمنية ورفع مستوى الكفاءة والجاهزية لدى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الوطنية؛ من أجل مواصلة التصدي الحاسم للجريمة داخليا ، ومواجهة التحدي الخارجي الناجم عن الأوضاع الإقليمية المضطربة في شبه المنطقة بحزم ويقظة وفاعلية، فلا شيء يعدل مكسب الأمن والاستقرار في منطقة يجتاحها التطرف والإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة السرية... وغيرها من المخاطر والتحديات الأمنية المزمنة.
4. التأسيس لمرحلة جديدة من محاربة الفساد بلا هوادة، فمهما كانت وتيرة التطوير والبناء وحجم مشاريع الإعمار؛ فلا تنمية في ظل غياب قيم الحكامة الرشيدة وحسن التسيير؛ ومعاول الهدم أسرع وأمضى من أدوات البناء، فلا مندوحة عن القطيعة النهائية مع ممارسات الفساد والزبونية والمحسوبية، وشن حرب غير تقليدية على كل مظاهر الفساد وأشكاله المقنعة؛ من خلال انتهاج استراتيجية وقائية استباقية في هذا السياق، تنطلق من تفعيل أجهزة الرقابة ومتابعتها، وتكثيف بعثات التفتيش ومضاعفتها، فضلا عن ضرورة اتباع مقاربة جديدة في التعيينات؛ عمادها تكليف الأطر الأكفاء الذين هم "مظنة للإصلاح" وإقصاء و إعفاء "أصحاب السوابق" في سوء التسيير ونهب المال العام.
5. إطلاق نهج جديد في الحكامة؛ مؤسس على المصالحة مع الشباب وقائم على إشراكه في التسيير وإدارة الشأن العام وصناعة القرار والتخطيط والاستشراف؛ تحريرا لطاقاته المعطلة وتثمينا لكفاءاته المهمشة؛ فالبلد بحاجة إلى طموح الشباب المندفع نحو التغيير ورغبته الجامحة في جودة الحكامة وحسن التسيير.
6. ضخ دماء جديدة في الجهاز الحكومي والإداري تتمتع بكفاءة عالية ونزاهة مهنية، متشبعة بقيم الحكامة الجيدة ومستلهمة لمبادئ التسيير المسؤول الشفاف الذى يضمن فعالية ونجاعة أداء المرفق العمومي، ويكفل ترجمة السياسات والاستراتيجيات الحكومية إلى مشاريع وبرامج ميدانية ملموسة؛ تستجيب لأفق انتظار المواطن المتشوف والمتعطش لتلبية حاجاته الخدمية الآنية وتطلعاته التنموية المستقبلية.
7. وضع رؤية شاملة لتطوير الإدارة وتحديثها ورقمنتها؛ وتقريب خدماتها من المواطنين والقضاء على البيروقراطية والفساد الإداري والرشوة والزبونية، وتجذير قيم المواطنة وتحرير الموظف العمومي من ربقة الانتماءات الضيقة السياسية والحزبية والاجتماعية والجهوية والعرقية والقبلية، وتكريس ولائه المطلق لمصلحة الوطن وخدمة المواطن.
8. تكثيف ومضاعفة الجهود الحكومية المبذولة؛ من أجل مواكبة ودعم المواطنين من المحتاجين والفئات الهشة ومحدودي الدخل باستحداث جملة من البرامج والمشاريع وخلق الفرص المدرة للدخل، وتفعيل سياسات التشغيل لضمان تحسين الظروف المعيشية للمواطنين وتحقيق الأمن الغذائي، والعمل على الحد من إشكالية ارتفاع الأسعار؛ عن طريق تسريع وتفعيل صلاحيات الآلية الوطنية المستحدثة لهذا الغرض والتنسيق مع الموردين ورجال الأعمال وتفعيل آليات رقابة السوق.
9. العمل على خلق بيئة مستقطبة وجالبة للاستثمارات الخارجية؛ من خلال تفعيل قواعد وآليات الحكامة وإشاعة قيم ومبادئ الشفافية في الحياة العامة، وتطوير وتحسين المدونة القانونية والترسانة التشريعية والمؤسسية المنظمة لحقل الاستثمار، نظرا لدوره المحوري في النهوض الاقتصادي وإطلاق قاطرة التنمية.
10. التركيز على الاستثمار في قطاعات الثروة المتجددة؛ بوصفها قطاعات حيوية ذات قيمة مضافة عالية مثل: الزراعة والتنمية الحيوانية والصيد، تأسيسا على دورها المحوري في تفعيل الاقتصاد المحلي، وتحقيق الأمن الغذائي، وتوفير الاكتفاء الذاتي، وخلق فرص التشغيل، عبر إحداث تناغم بين القطاعين العام والخاص، يتجسد في نسج شراكات عميقة ومثمرة وبناءة.
11. ضرورة إصلاح قطاع الصحافة والتأسيس لخطاب إعلامي جامع؛ قادر على التعبير عن نبض المجتمع، مساهم في صناعة وتشكيل الوعي، منسجم مع أهداف وأولويات التنمية البشرية، مستجيب للرهانات المهنية والمؤسسية؛ من خلال تنفيذ رؤية إصلاحية جديدة للحقل؛ تسهم في التمهين والتمكين لقيم العمل الصحفي الناضج، وترسيخ وتجذير خيار الحرية والتعددية المقترن برهانات الوعي والمهنية والمسؤولية.
12. العمل على تنفيذ حزمة مشاريع هيكلية ذات أبعاد ورهانات استراتيجية مستقبلية، تسهم في جلب استثمارات معتبرة وإقامة مشاريع عملاقة وخلق فرص تشغيل مباشرة؛ عبر قطاعات ديناميكية متعددة وآفاق اقتصادية واعدة، تراعى الحاجات التنموية والخصوصيات المحلية للاقتصاد الريفي، وتسعى في الوقت ذاته إلى تطوير وعصرنة البنى التحتية وتعزيز وتوسعة المنشآت الخدمية الضرورية في مجالات التعليم والصحة والمياه والطاقة، مع ضرورة تعميق الاستفادة من قطاع الثروة الحيوانية؛ العمود الفقري للاقتصاد الريفي.
وعموما، فإن الحكومة الجديدة تواجهها رهانات محلية وإقليمية ودولية كبيرة، وهي مطالبة بالارتقاء بمستوى أدائها والإسراع في وتيرة إنجازها، مع قوة الاستشراف ودقة التخطيط وعمق التفكير في برامجها ومقارباتها وسياساتها التنموية، وهي تراعى في كل ذلك مسارين متوازيين؛ مسار ظرفي آني استعجالي غرضه التخفيف من وطأة الفاقة وشح الموارد وحدة الأزمات، ومسار استراتيجي مستقبلي استشرافي غايته النهوض والإقلاع بالبلد، وجعله فضاء للإنجاز وبوابة للتنمية.