جاء خطاب رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في الرابع والعشرين من مارس 2022م بعد خرجة كانت محل تجاذب واختلاف بشأن تقييمها ، وهي حديثه أمام جاليتنا في إسبانيا ، ذلك الحديث الذي رأى فيه البعض تثبيطا لا يتناسب مع الأمل المنتظر من أول مسؤول في الدولة ...لتتالى ردود الأفعال عليه بين مشيد به على اعتبار تحليه بالمصارحة وعدم تزييف الحقائق ، ومستهجن له باعتبار أن المسؤولية التقصيرية في الواقع القائم تقع على الرئيس ونظامه .
جاء خطاب الرابع والعشرين مارس إذن بعد تلك الخرجة المثيرة، وفي سياق يدخل فيه الملف الأكثر استقطابا "ملف العشرية " لاهتمام الرأي العام به ، حالة بيات دخلها منذ لحظة انتهاء المراقبة القضائية ، بوصولها الأمد القانوني بعد التجديد خمس مرات ، وتمكين المشمولين فيه من التصرف بكامل حريتهم بما في ذلك السفر إلى الخارج ، وإذا كان هذا هو حقهم القانوني فإن تفسير المواطن له قياسا على ملفات سابقة يعني نهاية الملف .
في هذا السياق كان ضروريا أن يتحدث رئيس الجمهورية بعد حديث إسبانيا ، كلاما أكثر تحضيرا ، فكان خطاب الرابع والعشرين ، الذي نجح في صرف أنظار الرأي العام عن الفساد المالي "ملف العشرية "، وشغله بالفساد الإداري ، بعد ما لامست حروف الخطاب مشاعر المواطن وغازلته من خلال الأمثلة التي طرحها الرئيس .
ما إن انتهى خطاب الرئيس حتى بدأت محاولات الالتفاف المبكرة عليه من خلال حملات الشرح التي صاحبت خطابات سابقة حملت أملا وآلت إلى دائرة النسيان ، حيث تم التعاطي مع الخطاب بنفس الطريقة ، عبر طاولات تقليدية وحوارات يشهد ضيوفها بعضهم لبعض ، كما تصدرت الجهات التي وصمت بأنها هي مكمن الخلل حملات شرح الخطاب وأهميته، وكأنها ليست الجهات المخاطبة به .
في مقابل ذلك تم تطعيم الخطاب بالحديث عن فساد مالي يتعلق بنشر تقرير محكمة الحسابات، والحديث عن اختفاء سيارات الدولة، فما مدى تأثير هذا الخطاب الرئاسي والمقبلات رافقته ؟ وما الذي سيترتب عليه ؟ وما النتائج المنتظرة منه ؟
لقد حمل الخطاب تشخيصا لاختلالات تعرفها الإدارة الموريتانية منذ الأزل ، لكن هذا التشخيص ربما تأخر عن توقيته لأنه كان يجب أن يكون أيام الترشح، وهذا ما يجعله اليوم يفهم في سياق عجز التشخيص الأولي عن كشف الحقيقة ، الأمر الذي استوجب تدعيمه واقعيا بشق جسم الإدارة المترهل ، والتركيز على جهتين ــ مثالا لا حصرا ــ تمسان المواطن بشكل أكبر ، بعضها خدمي " المياه والكهرباء " وبعضها إداري "الإدارة الإقليمية " ..لكنه خصوص أريد به العموم .
ما كاد الرئيس ينتهي من خطابه حتى بدأت ماكينة الدولة العميقة تشتغل لإبطال مفعوله ، ليطرح السؤال المحوري لمن ستكون الغلبة ؟
يمكن القول بشكل موضوعي إن ميزان القوى بين التوجه الجديد الذي كشف عنه خطاب رئيس الجمهورية والدولة العميقة يصب في مصلحة هذه الأخيرة وذلك لعدة اعتبارات ؟
أولا : لأن الواضح الذي ليس محل نقاش أن النظام لم يوجه أي ضربة تمس كيان الدولة العميقة في عنفوانه وجبروته، بل على العكس كانت التعيينات والترقيات والتوشيحات تصب في مصلحة الكيان العميق .
ثانيا : أن القوى التي يمكن أن توازي الدولة العميقة أو تشكل تهديدا لها ، وهي من خارج (السيستم) لم تجد موطئ قدم أحرى أن تجد مكانا تكون فيه سندا للرئيس، أو على الأقل مشاغبا على القوى العميقة ، وهذا ما خلق وضعية غريبة في تاريخ الدولة جعلت القوى العميقة يخلو لها الجو بفعل حرج القوى المعارضة التقليدية المؤيدة أو في الحد الأدنى المهادنة للرئيس من مواجهة اختياراته وخياراته .
ثالثا : توقيت الخطاب في جدول زمني لخريطة الاستحقاقات الوطنية يفقده البعد التنفيذي فالحاجة الماسة إلى تأمين القواعد الانتخابية تحتم التعامل مع الوسطاء التقليديين الذين هم قوام وسند الدولة العميقة ، ما يعني أن النظام لن يجازف والحال كذلك بإثارة رعاة الاختلالات الملاحظة على الأداء العمومي في ظل الحاجة إلى دعمهم .
هذه الحسابات هي التي جعلت الخطاب ينتهي بأغرب تشخيص حيث أرجع الخلل للعجز لا لسوء التدبير ، وترك المبادرة في مواجهة ذلك العجز لإرادة القائمين عليه " ال ماه كاد إعدل عمل إخل بل الحد أوخر " .
اليوم حدث إقالة الحكومة يسجل لصالح توجه استعادة المبادرة وعلى حساب الدولة العميقة ، لأن إقالة الحكومة في حد ذاتها تتماشى مع المسار ، باعتبار فعل الإقالة تصدي للمسؤولية ، وهي فوق ذلك تعني تحميل الحكومة جزءا من التقصير الملاحظ ، إلا أن الأهم يبقى طبيعة الحكومة البديل ؟ وما الأوجه التي ستحملها ؟ وما مدى تكريس تلك الأوجه للقطيعة مع ما سبقها وكان سببا في تلك الاختلالات الملاحظة ، ذلك ما سيسهم في تحديد الوجهة في الباقي من المسار .
الحكومة المنتظرة إذن ستكون رسالتها حاسمة في تحديد من ستكون له الغلبة ؟