أسجل تعاطفي مع كل صحفي يدفع ضريبة كشف الحقيقة من حريته وعرضه، ويكد في واقع بائس لينير زاوية من واقع مظلم، نعم هذا يستحق التشجيع حتى ولو وقع في مأزق عدم تقديم دليل على خبر ما بسبب شح المعلومات، وانتفاء القدرة على تصوير أو تسجيل أدلة مادية في حالات كثيرة من استغلال النفوذ، أو الاختلاس، أو الرشاوى، لتبقى الروايات الشفوية هي المصدر الأول، وهي أسلوب يحتاج الكثير من الدقة والتحري فعلا، كما أنه مكلف حال استخدم النافذين أي وسيلة للإسكات، بما فيها الوسائل القانونية السلمية مثل القضاء ..
لكن من هو الصحفي الذي يستحق التعاطف والاحترام، أينما كان، حتى ولو وقع في فخ عدم القدرة على تقديم هذه الادلة بحكم محاربة الدولة للصحافة الجادة، وغياب القانون الكفيل بمتابعة أي مسؤول تثار حوله شبهات، أو في فخ الأخبار الصحيحة لكن الشفوية التي يصعب اثباتها واقعيا؟
هذا الصحفي هو الصحفي الذي يجمع بين الكفاءة والإرادة والنزاهة، أي تكون له القدرة على كتابة وتحرير خبر بلغة سليمة، وهذا ينتفي عن أغلبية صحافة المواقع المتكاثرة اليوم، وعن بعض الجرائد، وحتى عن بعض صحافة الإذاعات والتلفزيون مع الأسف، ويمكنكم التأكد بقراءة أو تصفح أي موقع أو جريدة أو الاستماع لأي نشرة. إنه الصحفي الذي يمتلك من الثقافة ـ البسيطة ـ ما يحيي به الوعي بدل قتله، إنه الصحفي الذي يمتلك الإرادة لتطوير واقعه عمليا وعلميا ومهنيا وحتى أخلاقيا، وتطوير مجتمعه بنقد الظواهر السلبية، وفي مقدمتها تغول السلطة التنفيذية على بقية السلط ـ بما فيها السلطة الرابعة ـ وعلى المجتمع والشعب، ومحاربة القبلية بما فيها القبلية الصحفية التي تجعل الصحفي والكاتب والمدون المعارض والمستقل لا يستطيع أن يكتب جملة عن مسؤولي العشير ولو نهبوا الدنيا وخربوها، أما الأقلام الموالية فليس المكان مناسب لذكرها، إنه الصحفي النزيه في التحري وفي النقد وفي القناعة المبدئية، وقبل كل هذا القناعة المادية، فالأغلبية الساحقة من الصحافة اليوم مدمنو استفزاز وارتزاق بأقلامهم مع الأسف!
إن التمييع الذي انتهجته السلطة لقتل الوعي ضرب الأحزاب وهيئات المجتمع المدني، وطبعا ضرب الصحافة، فمن يطالع لائحة المستفيدين من دعم الحكومة يجد فيها مواقع لا تستحق سوى الجلد والنقد البذيء، ولو كنت من أنصار التكميم لقلت انها تستحق الاغلاق والاختراق، هذا علاوة على منح اعلانات بمبالغ ضخمة، وصفقات لمواقع ووسائل إعلام ساقطة وإقصاء وملاحقة الاعلام الجدي المسؤول، وقد بلغت الوقاحة ببعض الصحافة سحب أخبار مقابل مبالغ، وباعت قنوات مبادرات قبلية بمبالغ أخرى، هذا التمييع شمل تشجيع صحافة صفراء لتشوه سمعة الصحافة أولا من خلال أدائها الفاضح، ومستواها الواطئ، وحتى تجسُّسِ كثير منها (لم أنس بعد لائحة رياض التي تكلم عنها واختفى قبل الافصاح عن الاسماء مع الأسف). وبالإضافة إلى ما تبذله السلطة من قتل الوعي من أجل كسر الأقلام الجادة، وتمييع الساحة الاعلامية، فإن رجال الأعمال والمسؤولين ـ بشكل فردي ـ يقومون بمبادرات جادة في هذا الصدد تتمثل في تقديم رشاوى وتشجيع أشخاص ذوي مستويات لغوية وأخلاقية ضعيفة، ليهاجموا مظان التوعية، ورموز المعارضة، بل والطريف ان أغلب هذه الصحافة المأجورة يوجهون سهامهم إلى بعض المسؤولين بتوجيه مدفوع الثمن من مسؤولين آخرين، في إطار صراع الحيتان الكبار على تركة "الوطن المريض".
هذا الخلط المقصود تروح ضحيته سمعة الصحافة عموما، وتروح ضحيته تلك القلة الصادقة ذات الكفاءة الجيدة أو المقبولة، وذات الإرادة، فتجرجر إلى القضاء أو السجن، أو تطرد إلى المنفى أو يضيق عليها في رزقها، بسبب نشر فضائح لنافذين. وهذه القلة تقع بين مطرقة السكوت على الفساد واستغلال النفوذ والرشاوى واختلاس المسؤولين للمال العام، وبين سندان صعوبة توفير أدلة قطعية في نظام مافيوي تهربت فيه رجالات اختلست المليارات من القضاء، فكيف بتهم أقل من ذلك؟!
إن الحل يكمن في عدة أمور من بينها: تخلي الصحافة الجادة ـ نقابات وروابط ـ عن ايواء "مخلوقات صحفية" لا تحسن تقرأ، ولا تحسن تكتب، ولا تحسن تستجدي، ولا تحسن حتى بيع أقلامها الخشبية الخفيفة. وعمل الجميع بما فيه السلطة ـ وهو مطلب صعب من سلطة فاسدة ـ على توفير المعلومات للصحافة الجادة، ولو بتعاون القضاء أو الجهات الامنية معها. والابتعاد عن السجن في قضايا النشر ففي الردود المكتوبة متسع وتصحيح وتصويب، وطبعا يرجى من المزيد من تحري الدقة والحذر في نشر معلومات محددة ضد أشخاص يمكنهم استغلالها للتضيق على الحريات، مع أن التضييق على الحريات بالشكاوى الفردية يبقى أقل سوءا من التضييق عليها بقرارات رسمية ومقننة وهي تلوح في الأفق من خلال قانون (ممم) القادم. وطبعا على المسؤولين الذين استمرأوا الزبونية في كل شيء ابتداء من تعييناتهم غير المستحقة بنفوذ قبلي، إلى سوء استخدام السلطة، إلى التورط في الفساد المالي والوظيفي، أن لا يحاولوا قتل المنفذ الوحيد لحصول المواطن على بعض المعلومات، وللتنفيس عن ما يعانيه من الظلم والإقصاء، حتى ولو كان ثمن ذلك بعض التجاوزات الطبيعية في بلد يفتقد نظامه الشفافية ويحتقر الصحافة الجادة الخ
تحياتي لكل صحفي شريف جاد، وتعاطفي مع كل ضحية لاستغلال النفوذ، أو الابتزاز، أو التهديد، أو محاولات الاسكات.
محمد الأمين ولد سيدي مولود