وقفات مع تحقيق د. حماه الله للحسوة البيسانية
"الحسوة البيسانية في علم الأنساب الحسانية"، لمؤلفه العلامة محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري الولاتيّ، أهمُّ مُؤلَّفٍ، وأوثقُ مرجع في تاريخ بني حسان وأيامهم وأنسابهم، وذكر تقاليدهم وأنماطِ حياتهم، فهو الكتاب الوحيد في مكتبة التراث الشنقيطيّ الذي اختصّ بذكر المجموعات الحسانية، وبُيُوتاتِها في المجد والشرف والسؤدد، والدين والعلم، والرياسة والسياسة.
وأوّل ما لفت نظري إلى هذا الكتاب، هو الإحالات المتكررة عليه، من طرف الباحثين المختصين والمؤرخين، خصوصاً من تَرْجَمُوا لجدّنا الأعلى وليّ الله أبْيَيْري بن محمد بن عبد الجبّار بن بَرْكَنِّي، وابنِه الوليّ صاحب الكرامة _ كما يصفه صاحب "الحسوة" _: امرابط مكة بن أبْيَيْري. رحمهم الله تعالى.
وقد كان صحَّ مني العزمُ ذاتَ أوانٍ، أنْ أُفْرِدَ جدّنا امرابط مكة بكتاب مستقل، لسبب اقتضى ذلك، فرغبتُ في الحصول على نسخة من الكتاب المذكور، لتوثيق النقول والإحالات، فنُمِيَ إلىّ الخبر، بأن طبعة جديدة منه بتحقيق الدكتور حماه الله ولد السالم قد وصلت إلى المكتبات في انواكشوط، فاستبشرتُ خيراً، وغدوتُ إلى شركة الكتب الإسلامية بسوق العاصمة، فصادفَ أنّ آخِر نسخة عندهم من الكمية المعروضة وقتَها هي التي اقْتَنَيْتُها.
وشَدَّ ما أَسِفْتُ وانتابني العَجَب والحيرة، حين تصفّحتُ الكتاب، فلم أعثر فيه على أثر للإحالات والنّقول التي كنت أبحث عنها، عدا سطرا أو اثنين خُتِم بهما الكتابُ، جاء فيهما ما نصُّه، ص264: (ومِن محمد بن محمد بن عبد الجبار بن بركني: أبييري بن محمد بن عبد الجبار بن بركني، وأدهس بن محمد بن عبد الجبار بن بركني). اهـ
فهل _ يا تُرى _ وَهِمَ العلماءُ المحققون والمؤرخون في عزوهم إلى هذا السِّفْر ما ليس فيه؟ وكيف تواردوا على هذا الوهم ؟ أم أن هناك سقطاً وحذفاً في نسخة الدكتور المحقق ؟ رغم تأكيده في المقدمة (ص64) على أنه اعتمد أجود النسخ المتداولة ؟
كان لا بُدّ إذنْ من قطع الشّك باليقين، وإجراء اسْتقراءٍ وتتبّع للنسخ المتداولة من كتاب "الحسوة البيسانية"، للمقارنة والموازنة، والوقوف على جليّة الأمر، فطفقتُ أبحثُ وأفحص عنها في مظانها، حتى يسّر الله تعالى بمنه وكرمه، فجمعتُ جميع طبعاتِ الكتاب، إضافةً إلى بعض نسخه المصورة.
وأوّلُ طبعةٍ صدرتْ لهذا السِّفْر الجليل كانت بتحقيق وإشراف الزاوية العلمية والثقافية للعلامة محمد صالح بن عبد الوهاب، بتاريخ1414ه _ الموافق1993م، وقد اعتمدت هذه الطبعة على نسختين: هما نسخةُ حفيد المؤلف الحسن بن صالح، بخطّ محمد بن المصطفى، وعليها حواش بخطّ العلامة هارون بن الشيخ سيدي بابَ، ونسخةُ العلامة سِدات بن بابَ بن الشيخ المُصْطَفْ بن العرَبي، بخطّ يده.
ثم تلتها طبعة المعهد الموريتانيّ للبحث العلمي، سنة1418ه _ الموافق1998م، بتقديم وتحقيق الدكتور اِزِيدْ بِيهْ ولد محمد محمود، والدكتور سِيدَ احْمَدْ بن أحمد سالم، وقد اعتمدت هذه الطبعة على ثلاث نسخ خطّية: نسخة حفيد المؤلف الحسن بن صالح، ورمزها (ح)، ونسخة العلامة المختار بن حامدٌ، وهي بخطّه، ورمزها (م)، ونسخة العلامة سِدات بن بابَ، ورمزها (س).
وبالمقارنة بين هاتين الطبعتين المُحقّقَتَيْن تحقيقاً علميّاً أكاديميّاً، مع الطبعة الصادرة عن دار الكتب العلمية بلبنان، سنة1436ه _ الموافق2015م، بتحقيق ودراسة الدكتور حماه الله ولد السّالم، نُلاحظ سُقُوطَ صفحاتٍ عدّة من آخر طبعة الدكتور ولد السّالم، وهذه الصفحات هي التي تتضمن الكلام على أولاد أَبْيَيْري، وأولاد أحمد إِيكِيدي من البراكنة، بينما وردتْ هذه الصفحات في طبعة الزاوية العلمية والثقافية للمؤلف محمد صالح بن عبد الوهاب، وطبعة المعهد الموريتاني للبحث العلمي، وفي أثنائها، تحدّث صاحبُ "الحسوة البيسانية" عن وليّ الله أبْيَيْري، وروى عن العلامة الشهير ادْيَيْجَ الكُمْلَيْلِي سبب هجرته وارتحاله عن قومه البراكنة، ولحوقه بالزوايا، دون أنْ يَنْبِذَ سلاحه، أو يتخلى عن قِيَمِ الفُروسيّة والشّهامة، ثمّ عن ابنه امرابط مكة وأولاده، وشهرته بالكرامة، وحِماهُ المشهور بِ"ازريبة امرابط مكة"، ثمّ عن أولاد أحمد إيكِيدي من البراكنة.
فهل غابَ عن الدكتور المحقق كُلّ هذا الكَمّ من المعلومات الوارد في هاتين الطبعتين ؟ وما وجه اعتماده على نسخة ناقصة ؟ وبماذا صارتْ أجودَ النسخ المتداولة على حدّ قوله ؟
لم يشَإ الدكتور أن يُجيب عن هذه السُّؤالات، التي ربما استشعر أنها ستدور بخَلَد القارئ، واكتفى باعتذار مقتضبٍ في ص64، جاء فيه: (ولم نشَأْ أن نُثقِلَ على القارئ بتحليل نقديّ للحسوة ومصادرها، ولا بتقديم تركيب تاريخيّ معقد، موجّه عادة إلى المختصين في التاريخ والإناسة والاجتماع)، هذا مع ملاحظة أن الدكتور لم يُعفِ القارئ من استطرادات واستنتاجاتٍ قد تكون أثقل.
ذكر الدكتور أنه (اعتمد أجود النسخ المتداولة، وهي نسخة المؤرخ الثقة هارون بن بابَ بن الشيخ سيديا، وقوبلت على عدة نسخ خلا زيادة يسيرة، وجدت مسودة بخط المؤلف). ص64.
فهل هذه حقّاً هي النسخة المعتمدة عند العلامة المؤرخ هارون بن الشيخ سيديا ؟ وما مدى مصداقية هذا الزّعم ؟
إن النسخة التي يتحدّث عنها الدكتور هي التي رمز لها الدكتور ازيد بيه، والدكتور سيد احمد، بالرّمز (ح)، في طبعة المعهد الموريتاني للبحث العلمي، وتنتهي هي والنسخة (م)، التي بخط المختار بن حامدٌ، قُبَيْلَ الكلام على البراكنة، وقد كتب هارون بن الشيخ سيديا عند نهاية النسخة (ح)، ما صورتُه: (الحمد لله، تمت مقابلة هذه النسخة بالنسخ التي وجدت عندنا، خلا زيادة قليلة، وجدت في واحدة من النسخ، لم تُكتب هنا، ولم تكن في النسخة المنقول عليها، ولا التي قوبل عليها، وإنما هي في نسخة ثالثة). اهـ . كتبه هارون بن الشيخ سيديّ 76/6/2. عند بتلميت.
وقد علّق المحققان: الدكتور ازيد بيه، والدكتور سيد احمد، في الهامش1، من الصفحة158، على ذلك بقولهما: (الصفحات الأخيرة، التي تتضمن أولاد أبْيَيْري وأولاد أحمد إيكِيدي من البراكنة، توجد في النسخة (س)، ويبدو أنها في عدد كثير من النسخ، وقد أطْلَعَنا الأستاذ بابَ بن هارون بن الشيخ سيديّ بابَ، على نسخةِ والدِه هارون، التي كان يرجع إليها وفيها هذه الصفحات، فهناك إذنْ نقصٌ في النسختين: "م" و"ح").
فهذا يُظهر بما لا يدع مجالاً للرَّيْب، أنّ نسخة المؤرخ الثقة هارون بن بابَ بن الشيخ سيديا، ليستْ النسخة الناقصة التي اعتمدها الدكتور ولد السّالم، بل هي نسخة تامّة، تتضمن الصفحات المتعلقة بأولاد أبييري وأولاد أحمد إيكيدي من البراكنة، وهي بحوزة ابنه الأستاذ بابَ، وقد اطّلَعَ عليها المحققان: ازيد بيه، وسيد احمد.
ويزيد الأمر وضوحاً، ما كتبه المحققان بعد هذا، فقد جاء في نفس الهامش والصفحة، ما صورتُه: (وقد أمَدّنا المؤرخ سِدات بن بابَ _ جزاه الله خيرا _ بتعليق مفيد، يُفصّل ما أجملناه، ويُبيّن من خلال النسخ الأصلية التي اطلع عليها النّقصَ الموجودَ في النسخة "م"، والنسخة "ح"، ونظرا لأهمية هذا التعليق، آثَرْنا إثباته كلّه، ونصُّه:
"الصفحات الأخيرة من نسخة الحسوة البيسانية، التي بخط سِدات بن بابَ، ونَسَختُها على نسخة بخطّ مؤلّفها محمد صالح بن عبد الوهاب، مِن نسخة بخطه وجدتها عند الفقيه سيدي محمد سداتي بن عبد الرحمن البرتلي الولاتي، في سنة1949م، وقابلتها عليها، وآخِرُ نسخته هذه: كلمةُ "اَعْلَيو" من أولاد أحمد إيكِيدي من البراكنة، وقابلتها على نسخة بخطّ المؤلّف، وجدها عند القاضي صالح بن الرشيد، حفيد المؤلّف، وآخِرُ كلمة منها "كرّوم" من اليتامى من البراكنة، كما قابلتها على نسخة بخطّ الحسن ابن المؤلّف، وعليها هوامش وتصحيحات بخطّ المؤلّف، وآخِرُ كلمة منها "اَعْلَيوَ" من أولاد أحمد إيكِيدي، وجدتّها عند سيديَّ بن الشيخ أحمد بن آدبَّ البوسيفي، في سنة1949م، وقابلتها على عدد نسخ من كتاب الحسوة البيسانية، منها نسخة بخطّ القاضي بَايْ بن أعْمَرْ دُكرَ الْمُرْجي السّوداني، ونسخة عند الفقيه محمد محمود بن غالي البوساتي الحوضي، آخِرُ كلمة منها "اَعْلَيوَ" من أولاد أحمد إيكِيدي من البراكنة.
وهذه الأوراق الأخيرة من الحسوة البيسانية، التي تحتوي على نسب أولاد أبْيَيْري وأولاد أحمد إيكِيدي من البراكنة، توجدُ في هذه النسخ التي نسختُ، وقوبلتْ عليها، وفي عدد كثير من النّسخ، كنسخة القاضي بِيَّ بن سليمان، ابن عمّ المؤلّف محمد صالح بن عبد الوهاب النّاصريّ، التي صححها ووضع عليها حاشية حافلة بالفوائد التاريخيّة والنّسَبِيّة، سماها الجرعة السّليمانيّة على الحسوة البيسانيّة، ونسخة بخطّ الأستاذ أحمد محفوظ بن ويس النّاصريّ، التي وضع عليها تحاليلَ وتحقيقاتٍ، نالَ بها شهادة في المدرسة العُليا للأساتذة والمفتشين، سنة83 _ 1984ميلادية"). اهـ .
وعسى أن يُقَيّض الله لهذا السِّفر النّفيس من يَقْدرُه حقّ قدره، ويُبرزُه في حُلّةٍ تليقُ به، وقد تناهى إلى سمعي أن الدكتور محمد بن بوعليبة عاكفٌ على تحقيقه، فعسى أن يكون عمله عند حسن الظنّ به.
كتبه: إسماعيل بن محمد يحيى بن أشفقنا الله
بتاريخ: الأحد/16/ ربيع الآخر/1443ه.
الموافق: 21/ نوفمبر/2021م.