أزمة كورونا ...حرب ضد عدو غير مرئي ..ونقمة في طيّها نعمة

جمعة, 30/04/2021 - 10:21

منذ الواحد والثلاثين كانون الأول ديسمبر 2019م ــ تاريخ الإبلاغ الأول لمنظمة الصحة العالمية بتفشي كوفيد19 في مدينة ووهان الصينية ــ يخوض العالم حربا عالمية لا هوادة فيها ، ضد عدو غير مرئي ، ما يزال يحير جيوش العلماء والباحثين ، وصناع الأدوية وعلماء التشريح وخوارزميات الخلية البشرية ، وخلية الوباء المهاجم للمناعة ، وللجهاز التنفسي لهذا الكائن البشري .

وقد بلغت حصيلة الضحايا الإجمالية لهذا العدو الخفي في إبريل 2021 حول العالم 3 ملايين حالة وفاة ، حسب إحصاءات جامعة جون هوبكنز الأمريكية.

ويأتي ذلك في الوقت الذي أعلن فيه مدير منظمة الصحة العالمية أن العالم "يقترب من الوصول إلى أعلى معدل إصابة بالفيروس على الإطلاق" تم تسجيله.

وبلغ عدد حالات الإصابة بالفيروس على مستوى العالم منذ بداية الوباء ما يقرب من 140 مليون حالة إصابة.

وقد هز الفيروس بشكل جذري وعميق العلاقة بين الدول العظمى وبين المنظمات العالمية ، وهيئات الدول في الكوارث الإنسانية ، وتطور انعدام الثقة بشكل أظهر غياب التآزر، وجذر فلسفة التنازع ، وكرس الأنا الفردية عند الدول ، وغيب القيم والأخلاق التي كانت تتباهى بها الدول العظمى ، بعدما تحولت هذه الدول إلى مؤسسات تجارية، لم تعد تحمل تعهدات أخلاقية لصالح الأغلبية من المغبونين في الثروة ، وفي السلطة ، وفي التعليم وفي الصحة .

أثبتت حرب كورونا العالمية أن الرابح فقط هو بلد لم تجتح مدنه وقراه جائحة كورونا ، ولم تتوطأه كارثة القلق والتوتر النفسي ، كما أكدت الحاجة إلى المحافظة على مناعة الساعة البيلوجية للإنسان من داء اسمه الرعب والفزع ، فهو مدمر لمناعة الأسواق ، وكل المسارات ، سواء كانت مرافق صحية ، أو مراكز إيواء أو تشغيل ، أو مصانع إنتاج ، أو مثابة عبادات .

رب ضارة نافعة

التجارب العصيبة سواء كانت عامة أو خاصة هي فرص لاستخلاص الدروس والعبر ، وكلما عظم وقع التجربة كانت الدروس المستفادة منها أكبر ، فرب ضارة نافعة ، وكم نقمة في طيها نعمة ، قال تعالى : " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ، فالإنسان قد تساق له أقدار مؤلمة ومصائب موجعة تكرهها نفسه ، ويجزع منها قلبه ، وتصيبه بالحزب ، فيظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية .

وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب ! وكما قال المتنبي :

فَوْتُ العدو الذي يممته ظفر ... في طيه أسف في طيه نعم

تجارب كثيرة ونعم عظيمة ، ودروس جمة فتحت حرب كورونا أعين الناس عليها ، لترشدهم إلى مراجعة حياتهم الدينية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والعملية .

قوة الإنسان مع العافية فقط ...(وخلق الإنسان ضعيفا )

غير فيروس كورونا العالم ، ولعل من أبرز تجليات هذا التغير ، أن التجارة لم تعد مرابحة ربوية ، فالتجارة الحقيقية ، والتي لا تبور هي التجارة مع الله ، وتلك التجارة هي القيم ، والأخلاق ، والرسالات السماوية ، والإيمان بالأقدار ، فقد أصيب الجميع بالذهول ، قادة عالم ، ودبلوماسيون ، ومحللو جغرافيا سياسية ، وقفوا وهو شهود على عجر أعتى الدول عدة وأعدادا عن وقف انتشار الوباء ، وكأن هاتفا يهتف بالحكمة الإنسانية الخالدة " إن قوة الإنسان مع العافية فقط " ، وأن البشرية رغم وصولها للمريخ لم تؤت من العلم إلا قليلا .

ذكرنا هذا الفيروس بأن البشرية جمعاء ضعيفة مصداقا لقول الله عز وجل " وخلق الإنسان ضعيفا " ،وأن الشرائع السماوية هي المناسبة للتكوين النفسي والعقلي ، وأن أحد أهم قواعدها التي تقوم عليها ، مناسبة الطبيعة البشرية المجبولة   على الضعف والوهن مهما علت النفوس وتكبرت ، وأننا جميعا مترابطون ، فما يصيب أحدنا يصيب الآخر ، وأن الحدود الجغرافية التي ندرسها في المدارس والجامعات كلها زائفة ..ينتقل الفيروس بسرعة البرق بين الدول والقارات دونما حاجة إلى تأشيرات ولا جوازات سفر .

أثبتت هذه المسلمة أننا بحاجة إلي توازن روحي وكما يقال " من رحم المحنة تولد المنحة " فوسط حالة الهلع والخوف ، بدأ الناس يتحسسون وجدانهم ، وبدأت تعتمل في قلوبهم الحاجة إلى الله الواقي الحافظ الحفيظ ، وكما قال ابن خلدون : " الناس في السكينة سواء فإذا جاءت المحن تباينوا " ، وهل لنا أن نتصور درجة طمأنينة الناس خلال هذه الأزمة وهو يستمعون إلى صوت الأذان وقراءة القران .

تدعيم سلوكيات ومراجعة أخرى

أثبت الفيروس حاجتنا للتصالح مع بعض السلوكيات ومراجعة أخرى ، فقد أثبت التباعد الاجتماعي ونظافة اليدين والغسل الدائم لهما نجاعة في محاربة الفيروس ، وهي كلمها أخلاق فطرية عند مليار مسلم ، حيث يعتبر الإسلام النظافة من الإيمان ، ويطالبنا بالوضوء قبل كل صلاة ، إلا أننا جميعا نحتاج وقفة صريحة مع النفس في ظل غياب هذه النظافة في البيوت والشوارع وأماكن العمل ، ووسائل المواصلات والحدائق ، وحتى أماكن العبادة !!

أعادت الجائحة دفء العلاقة بيننا والعائلة ، ونبهتنا إلى أهمية إعطاء كثير من الوقت لآبائنا وأزواجنا وأبنائنا ، بعد رحلة تيه مع متاع الدنيا .   

جعلنا كورونا ندرك قيمة الأستاذ ، وأهمية المدرسة ، وضرورة بعث الحياة في أمور معطلة وقضايا عالقة ، وبيوت تحولت إلى فنادق فقط لا نعرفها إلا عندما نؤوي إلى فراش النوم .

في المقابل لفتتت كورونا أنظارنا إلى إلحاحية مراجعة بعض سلوكياتنا الشخصية، كالمغالاة في المصافحة والمعانقة ، والتقبيل ، التي تعتبر أهم أسباب انتشار الفيروسات ، فيمكننا التعبير عن المحبة والامتنان بالابتسامة والكلمة الطيبة .

الوطن هو المآل ...والحاجة أم الاختراع

قبل كورونا كانت دول العالم الثالث تشكو هجرة العقول والأموال ، فالنخبة في بلداننا كانت تتعامل مع أوطانها بمنطق " خذ خيرها ولا تتخذها وطنا " ، فكان من فضائل كورونا إعادة تصحيح هذا الاختلال ، فأصبحت الهجرة من الجنوب إلى الشمال وليس العكس ، وأدرك كثيرون أن لا مناص من العودة إلى الأوطان ، وكانت طوابير العالقين على الحدود في بداية الأزمة تؤكد هذه المسلمة ، وهي مسلمة تدعو الموريتاني المبدع إلى التفكير في تطوير صحته وتعليمه ، وتجذير استقلاله الغذائي عن الآخر، قبل أن تفرض عليه الأزمات الرجوع مكرها إلى وطن يحتاج لتطوير صحته وتعليمه ، ودعم غذائه .

وبناء عليه يجب أن تتضافر جهودنا جميعا لبناء الوطن المصير ، فيستثمر رجال الأعمال في المستشفيات والمدارس ، ويفكر المسؤول في استيراتيجيات وخطط تطويرها وإصلاحها ، لأن أزمة مثل كورونا ستطردنا من باريس ونيويورك وتعيدنا إلى نواكشوط .

أثبتت أزمة كورونا كذلك أن الحاجة أم الاختراع ، وأن الظروف غير التقليدية تستلزم تفكيرا غير تقليدي ، يناسب حجمها وحدتها ، وفي هذا السياق كانت تجربة التعليم عن بعد ببلادنا اختراعا ــ متأخرا ــ ، ولد من رحم التفكير في حل ينقذ المواسم الدراسية من الضياع ، لكنه حل أثبت أننا بحاجة إلى التفكير في شروط الشدة أيام الرخاء :

فلقط شروط الشح في الرخاء           وفي الأوان طلب الأشياء

عدالة الفيروس

من الدروس المستخلصة من تفشي وباء كورونا في العالم أجمع هو تلك العدالة التي نشر في الأرض ، حيث قدم لنا دروسا في الديمقراطية ، والمساواة ، والوحدة ، فهو لا يفرق بين رئيس ومرؤوس ، ولا بين قوي وضعيف ، ولا بين غني وفقير ، ولعل ذلك يرشدنا إلى مزيد من العدالة والصفح والتسامح ، ويدعونا للعفو والتضامن والتكامل ، فاللحظة لحظة تسامح وعفو ، لحظة رحمة والراحمون يرحمهم الله .

أبطال أفرزتهم المعركة

أفرزت حرب كورونا أبطال العالم الحقيقيين ، وكما نقول في موروثنا الشعبي " كل فتنة في سعد رجل " ، وكانت فتنة كورونا في سعد رجال اعترف العالم بحاجته إليهم أكثر من غيرهم ، وبدا ضنينا بهم وهو يكابد الوكل ، هؤلاء الأبطال الحقيقيون هم الطبيب الماهر ، والمدرس المتقن ، والجندي الساهر ، والصحفي المهني ، والعالم الرباني القنوع ، وكل من يعلم الناس الخير .

وتنفست الأرض من جديد

نعم كورونا تجاوزت الإنسان إلى الجماد ، فمن مفارقات القدر في هذه الجزئية أن الوباء البشري أدى إلى تصحيح بعض أوضاع المناخ المختلة ، حيث أثبتت الصور الملتقطة من الفضاء أن الأرض تنفست من جديد بعد الهدوء الذي ساد بفعل الجائحة ، وكانت الأجواء الصينية والأوربية في مقدمة الأصقاع والبقاع الشاهدة بذلك ، بعدما قلت فيها نسبة التلوث ، وأنواع العبث .

الخاتمة

"سينحص الوباء تدريجيا بعد أن يبلغ ذروة انتشاره ، ثم ينتهي مثل أوبئة كثيرة عرفها العالم من قبل ، لكن يصعب تحديد المدى الزمني لانتهائه ، إذ يختلف الخبراء والمتخصصون في تقدير الوقت الذي سيستغرقه ذلك ، لكنه سيصبح في النهاية جزءا من التاريخ الذي حفل بكثير من الآلام ، وسيكون التاريخ بعد انقشاع غبار كورننا مختلفا عما قبله ، سيكون شعورنا بالمسؤولية والشجاعة هو مصدر الفخر ، والأمل في دعوة مجابة من رب رحيم تزرع فيها اليقين بأن العبور قريب وبأن الحياة ستعود لتدب قريبا في تفاصيل حياتنا اليومية ، فكما جاء كورونا دون سابق إنذار فإنه سيختفي تماما ــ بحول الله وقوته ــ فجأة ودون سابق إنذار "

لكن ما خلقه طوفان كورونا من إرث أكد أن العالم يتغير في القناعات ، والعادات ، والتحالفات ، وأنه لن يكون كما  كان قبل انتشار فيروس كورونا المستجد ، لذلك على الجميع حكاما ومحكومين ، أرباب صناعات وقادة رأي ، التفكير في مآلات الاستعداد للانتقال إلى نظام عالمي لما بعد كورونا ، فشمس عالم ما بعد كورونا ستشرق على كوكب جديد بكل المقاييس .

عبد المجيد ولد إبراهيم