الطريق للعودة بالبرلمان الموريتاني لنظام المجلسين يمر حتما بذات الخطوات التي بها تم إلغاء غرفة الشيوخ واعتماد برلمان الجمعية الوطنية ،أما القول بإمكانية استعادة مجلس الشيوخ لوجوده ومباشرته لمهامه بمجرد قرار من السلطة ودون الحاجة للجوء لمراجعة للدستور تعيده ضمن مكونات البرلمان الموريتاني ، تأسيسا على وجود مآخذ قانونية وإجرائية شابت إقرار القانون الدستوري 2017-017 الذي تم بمقتضاه إلغاء المجلس؛ انتصارا للدستور ووقوفا بشكل حدي مع احترام مقتضياته، فمخالف للقانون وبالغ الخطورة من حيث الأثر على الهيئات الدستورية والثقة في مؤسسات الدولة وكامل منظومتها القانونية .فاعتماد قول كذلك يرتب بالاستصحاب والقياس إسقاط الشرعية عن المراجعة الدستورية المقرة بموجب استفتاء 12 يوليو 2006 (أولا) وعن التمديد للجمعية الوطنية التي صوتت خلال المؤتمر البرلماني في 06-03-2012 على المراجعة الدستورية التي جاء بها القانون الدستوري 2012-015 وأقرت في (المادة 15) منها "تمديد سلطات الغرفتين البرلمانيتين إلى غاية الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية القادمة" ، وهو التمديد الذي مكن للتشكيلة المنافحة اليوم عن بقاء المجلس من الخلود في الوظيفة التمثيلة حتى إلغاء الهيأة (ثانيا).
ليس ذلك، لوحده، ما يسند تحصين مقتضيات المراجعة التي ألغي مجلس الشيوخ بموجبها، فما قدم من مآخذ قانونية وإجرائية عليها ليس على إطلاقه، ومحجوج في غالبه (ثالثا).
أولا: مراجعة 12 يوليو 2006 في ميزان الشرعية:
هذه المراجعة مراوغة في استجدائها للشرعية؛ فقد اعتمدت صيغة "القانون الدستوري " ودون استخدام عبارة "الاستفتائي" مع أن الطبيعي أن توصف ب " الأمر القانوني "؛ فلا برلمان صادق عليها، ومن قدمها للاستفتاء الشعبي رئيس دولة لا رئيس جمهورية. وعلى ذلك كان يناسبها ما ناسب الدستور نفسه مراعاة لتلك الاعتبارات جاء في الصيغة الملائمة من خلال "أمر قانوني" هو: الأمر القانوني رقم 91-022.
كذلك هى، واقعيا، مراجعة مستحيلة دستوريا: فموضوعيا لأنها وردت بصيغة "إعادة العمل" بالدستور بعد "التعليق" وهي مصطلحات خارج قاموس القانون الدستوري. هى أيضا مستحيلة إجرائيا؛ إذ مبادرة تعديل الدستور غير متأتية خارج الظروف العادية، قاصرة على رئيس الجمهورية والنواب ومحظورة حتى على الرئيس بالإنابة، فكيف تكون لرئيس بالتغلب!
وعلى كل حال هي بالاستصحاب مراجعة أقرت باستشارة شعبية مباشرة على النحو المقر في (المادة 38) دون عرض محتواها على نواب الشعب، سوى أن قرار مبادرتها جاء من رئيس دولة لا رئيس جمهورية!
ثانيا: في التأريخ لشرعية مجلس الشيوخ :
المجلس المنبثق عن اقتراع يناير 2007، كان ثلثا أعضائه عند اسقاطه لمشروع التعديل الدستوري في 17 مارس 2017 قد احتفظوا فيه بعضويتهم لعشر سنوات، رغم أن مأموريتهم محددة بست سنوات (المادة 47/جديدة من الدستور-المادة 2 من القانون 91 -029، بتاريخ 07 اكتوبر 1991، المتضمن للقانون النظامي المتعلق بانتخاب الشيوخ).
أما الثلث الذي جاء إثر التعديل الجزئي في انتخابات نوفمبر 2009 (الفئة "أ") فتعدى أعضاؤه سنتهم الثامنة من الانتداب.
شرعنة ذلك التجاوز لم يحسمها التمديد للمجلس بمقتضى (المادة 15) من القانون الدستوري 2012-015 بتاريخ 20 مارس 2012، التي نصت على:" تمدد سلطات الغرفتين البرلمانيتين إلى غاية الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات التشريعية المقبلة" لحقيقتين حاسمتين:
1-إن نواب الجمعية الوطنية الذين شاركوا فى المؤتمر البرلماني الذي صادق على القانون الدستوري 2012-015 المقر لتمديد سلطات غرفة الشيوخ، يعود انتخابهم إلى نوفمبر 2006؛ ما يعنى أن مأموريتهم قد انقضت بحلول نوفمبر 2011، على اعتبار أن "سلطات الجمعية الوطنية تنقضي حين افتتاح الدورة العادية لشهر نوفمبر السنة الخامسة التي تعقب انتخابها" (المادة 2/ف1، الأمر القانوني رقم 91ـ028 بتاريخ 07 ـ10 ـ1991، المتضمن للقانون النظامي المتعلق بانتخاب النواب في الجمعية الوطنية، المعدل).
وحيث إنه في منطق القائلين بعدم اعتبار ما تم بموجب القانونين الدستوريين الاستفتائيين رقمي 2017-021 و022، بتاريخ 15 أغشت 2017 ، خصوصا ما يتعلق بإلغاء مجلس الشيوخ ،بفعل اختلالات إجرائية حسب اجتهادات الشيوخ المضارين من إلغاء هيأتهم ، وبعض الآراء القانونية المؤسسة والموجهة ، رغم استفتاء الشعب وإشراف المجلس الدستوري على عملية الاستفتاء وقراره رقم 2017/ 03/ استفتاء /م.د ، في 15 أغشت 2017 بشأن نتائجه ، فإنه لا يكون من حجية أو حصانة للرأي الاستشاري رقم 2011/02 /م.د، الصادر في 5 سبتمبر 2011 عن المجلس الدستوري بأنه:" يمكن للجمعية الوطنية أن تمارس صلاحياتها إلى غاية افتتاح دورة مايو 2012" لكونه مجرد رأي استشاري في موضوع مأمورية النواب التي حددها الدستور في (المادة 47/جديدة) ب:"ينتخب أعضاء الجمعية الوطنية لمدة خمس (5) سنوات ...) ما يرتب الحاجة في تعديلها إلى استصدار نص بدرجة القيمة القانونية للنص الدستوري الذي أقرها، وهو مالم يعمد إليه!
2-وحتى على تجاوز شرعية تمديد سلطات المجلس من زاوية الطعن في شرعية الجهة التي اشتركت في المصادقة على القانون الدستوري الذي أقره، فإن شرعية تشكيلة المجلس تسقط لعدم التزام التجديد الجزئي المنتظم لفئات الشيوخ؛ فالقانون الدستوري 2012-015 أقر تمديد سلطات الغرفة، لكنه بالمقابل لم يتعرض أو يسمح بالعدول عن التجديد الجزئي، بل وليس له ذلك أصلا ؛ ما يعنى ، بالنظر للفرق بين التمديد والتجديد ، أن أعضاء المجلس في ظل عدم التجديد (للفئتين "ب"و"ج") في الآجال منذ 2011 و2013، و (الفئة "أ") بعد انقضاء مدة انتدابها منذ 2015 قد أصبحوا خارج الشرعية.
مثل ذلك الوضع هو الذي يفسر توجيه المجلس الدستوري، على غير المنتظر والمألوف، إلى أن يأمر: " أن تجدد كل فئات غرفة مجلس الشيوخ دفعة واحدة" وذلك بمناسبة استعراضه لدستورية القانون النظامي الذي يلغى ويحل محل أحكام القانون النظامي رقم 2014-029، بتاريخ 26-12-2014 المتعلق بتحديد طرق العودة إلى التجديد الجزئي المنتظم لمجلس الشيوخ، ومدة الإنابة التشريعية للجمعية الوطنية، في المادة الثانية من قراره رقم: 2016/001/م.د، بتاريخ 11-02-2016.
ما بين صدور قرار هيئة القضاء الدستوري في 11-02-2016 الذي وجه إلى وجوب الفورية في مباشرة تجديد كلي للغرفة العليا بالبرلمان الموريتاني، وإسقاط نفس الشيوخ لمشروع التعديل الدستوري في 18 مارس 2017، انقضت سنة كانت كافية لإنفاذ توجيه المجلس الدستوري بانتخاب مجلس شيوخ جديد. ما يعنى أن تشكلة مجلس الشيوخ التي أسقطت مشروع التعديلات الدستورية لم تكن تحوز، في أحسن الأحوال، أكثر من مجرد شرعية ميتة سريريا.
ثالثا: شرعية آلية الاستشارة المباشرة:
أما بخصوص الطعن في المراجعة المقرة بالقانون الدستوري الاستفتائي 2017-021 من زاوية اعتماد آلية الاستفتاء الشعبي وفق مقتضيات (المادة 38) من الدستور، وخصوصا بفعل المزاوجة بينها والمسطرة التشريعية للتعديل المقررة في الباب الحادي عشر من الدستور، فإنه ينبغي الإشارة إلى أن الدستور كرس مسطرة الاستفتاء على وجهين:
أولهما جاءت به (المادة 38) ويمكن وصفه بالمسطرة المنفردة باعتبار أن رئيس الجمهورية يباشرها مبادرة وتفردا.
أما الوجه الثاني فورد في (المادة 99/جديدة/ف1) كجزء من مسطرة يلحق فيها على مبادرة ونقاش وتصويت البرلمانيين، إذا لم يقرر الرئيس العدول عنه إلى "المؤتمر ".
الباب الحادي عشر المعنون بمراجعة الدستور عني حصرا بالمسطرة الناظمة لمسار مشروع المراجعة المقدم من طرف البرلمانيين، فبين الشروط لازمة التحقق قبل وصول مقترحهم للاستفتاء الشعبي:
- الحصول على ثلث (3/1) النواب لتأتى نقاش المشروع.
-أن يحظى بتصويت ثلثي (3/2) أعضاء الجمعية الوطنية وثلثي (3/2) أعضاء مجلس الشيوخ.
وبتحقق الشرطين يضمن النواب وصول مبادرتهم لمداها: إما بمصادقتهم عليها في المؤتمر البرلماني، أو حال عدم تبنى الرئيس لها وتوجهه إلى العدول عن آلية المؤتمر البرلماني من خلال الاستفتاء، وليس للرئيس في مواجهة مبادرة النواب أكثر من ذلك.
القول بانطباق مقتضيات الباب الحادي عشر من الدستور على مشروع التعديل المقدم من رئيس الجمهورية يعنى إعطاء النواب سلطة مصادرة تمتعه بمبادرة تعديل الدستور من خلال تمكينهم من اعتراضها واسقاطها قبل وصولها لمداها الطبيعي؛ أي استفتاء الشعب حولها.
الدستور بذلك الخصوص حاسم وصريح؛ حيث استخدم صيغة "التعديل" حال كون رئيس الجمهورية هو المبادر، بينما بوب في الباب الحادي عشر على تمكين النواب من خلال "المراجعة ".
(المادة 40/جديدة) أكدت صراحة على حق رئيس الجمهورية في تعديل الدستور بالاستفتاء الشعبي بمنطق الحال، حين سلبت الرئيس بالنيابة تلك الصلاحية:" ليس للرئيس بالنيابة ... ان يستشير الشعب عن طريق الاستفتاء ..."
في كل مرة يكون فيها موضوع المراجعة الدستورية يمس من سلطة أو صلاحيات البرلمانيين لن يكون من بد من الاحتكام للشعب، فمن غير المنطقي عندما يكون النواب خصما لمحتوى المراجعة أن يحتكم إليهم في إقرارها، كذلك كان الحال مع الجنرال ديغول ولمرتين؛ حيث عمد تأسيسا على مقتضيات (المادة 11) من دستور 1958 الموازية ل (المادة 38) من دستور 20 يوليو لمواجهة البرلمانيين المتمترسين خلف الدور الذي تعطيهم المادة 89 من الدستور كسلطة فاعلة في أي مسطرة للتعديل:
-المرة الأولى: استفتاء 28 أكتوبر 1962 الذي جاء بإصلاح 06 نوفمبر 1962 وبموجبه أصبح رئيس الجمهورية ينتخب بالاقتراع العام المباشر.
-المرة الثانية: وكانت بمناسبة استفتاء 27 إبريل 1969 حول الجهوية و"إلغاء" مجلس الشيوخ، وترتب على رفضه من الشعب وضع حد لمسيرة الجنرال ديغول السياسية.
أقرب عهدا من ذلك، إعلان الرئيس الفرنسي الحالي "ماكرون" في كلمة له أمام البرلمان الفرنسي الملتئم في مؤتمر برلماني بتاريخ 3 يوليو 2017، أنه سوف يلجأ إلى الاستفتاء المباشر إذا عارض البرلمانيون رغبته في تمرير مراجعة دستورية يتم بموجبها تقليص عدد أعضاء البرلمان.
عمليا، تأثر النقاش حول إعمال (المادة 38) بالموقف السياسي من جهة مبادرة مشروع المراجعة. موقف القوى المعارضة في بداية الأمر وقبل الوقوف على وجود معارضة لمشروع المراجعة داخل الغرفة العليا كان التمسك بمسطرة الاستفتاء، على اعتبار أن الأغلبية البرلمانية المضمونة تجعل التمرير وفق المسطرة البرلمانية غير ذا مصداقية.
التجاذب السياسي أخرج النقاش عن سياقة؛ فاستفتاء الشعب ليس سلطة بل مجرد صلاحية، صلاحية لا يضمن بحال من الأحوال تحقق رغبة المبادر لطلبها. والاتجاه العام يدفع باتجاه توسيع دائرة المؤهلين لمبادرة مراجعة الدستور، وذلك بالتمكين للمبادرات الشعبية المزكاة من أعداد تدفع للاعتقاد بتبني الفكرة داخل المجتمع بأن تختبر من خلال العرض على الاستفتاء الشعبي.
بخلاف ما قد يعتقد البعض، فإن المراجعة التي يتم تمريرها عن طريق استشارة الرئيس للشعب مباشرة مأمونة على مواد الدستور المحصنة أكثر من مقترحات المراجعة المقدمة من النواب؛ ذلك أن الرئيس يقسم على:" أن لا أتخذ أو أدعم بصورة مباشرة أو غير مباشرة أية مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى مراجعة الأحكام الدستورية المتعلقة بمدة مأمورية رئيس الجمهورية وشروط تجديدها الواردة في المادتين 26 و 28 من هذا الدستور." أما النواب فليسوا تحت القسم وكثيرا ما عبروا عن عدم قرآنية الدستور!
استشارة الرئيس للشعب مباشرة ضرورية للاحتكام لصاحب السيادة الأصلي حال عدم اتفاق الجهات التمثيلية لاختلاف الرؤى والمواقف وخصوصا بدافع المصالح الحصرية للأعضاء، سواء تعلق الأمر باختلاف السلطة التشريعية والتنفيذية، أو نتج عن تباين المصالح والآراء بين غرفتي الهيأة البرلمانية؛ وكلها أمور متحققة في حالة مشروع المراجعة الدستورية لسنة 2017، فما أسقط الشيوخ يجمع بين كونه مبادرة لرئيس الجمهورية تمس مصالح الغرفة العليا وأعضاءها، حظيت بدعم النواب وخالفهما فيها عدد من الشيوخ!
الانصياع لرغبة عدد من أعضاء غرفة الشيوخ المهددين بإلغاء غرفتهم واللجوء لانتخابات مبكرة بدل اللجوء إلى إعمال (المادة 38) كان هو الخطوة الطبيعية لنظام يضمن نتائج الانتخابات سلفا باعتبار انتماء أغلب المجالس البلدية لحزبه وللأغلبية الداعمة له؛ ما يعنى التحكم في من سيخلف الشيوخ المتمردين على توجيهاته وخيارته، ومن ثم ضمان تمرير المراجعة من ذات الطريق الذي تعثرت فيه سابقا.
عبثية إجراء انتخابات لاختيار شيوخ سيكون دورهم مجرد التصويت على إلغاء غرفتهم كانت حاضرة في قرار العدول عن هذا الخيار، لكن النظام الذي تعود دعم البرلمانيين منذ عهد الكتبة البرلمانية التي دعمت الانقلاب بل وبشرت به، لم يكن ليسمح لغيره بتجييش كتيبة برلمانية تربك حساباته في مرحلة دقيقة من عمر السلطة القائمة والتي ستخلفها. تماما كما لم يكن ليقتنع أن انحياز الشيوخ للدستور كان محرك ذلك الحراك الذي لم يعلن عمليا عن نفسه وعن معارضته إلا بإعلان نتائج التصويت على مشروع القانون الدستوري الذي حمل إلغاء غرفتهم.