( إلى الذين باعوا صرخة الحياة وبياض اللبن وطعم السكر وموج البحر وطحلبه) أريد أن أباع، لا يهمنى من سيشترينى، ولا يهمنى الثمن، ولا الجهة التي ستتولى شرائي، فأنا في بلد يوشك أن يبيع القائمون عليه كل شيء، من المقابر، إلى المخافر..!! نعم بيعوني، ولو بحفنة رماد، مع أنكم قد لا تجدون بداخلي أية قطعة غيار تصلح لكم، أنا وكما تعرفون لا ظهر فيركب ولا ضرع فيحلب جسم نحيل، ورأس وخطه الشيب ،وعمر ضاع معظمه، وقلم أعداؤه أكثر من أصدقائه، وأفكار لا تسر هذا، إلا لتغيظ ذلك . عموما بيعوني فورا، فالوطن الذي كنت أحلم به رغيف خبز، وحضنا دافئا ،وقرص استشفاء ،تبخر وذهب مع الريح. إن لم تبيعوني فلا أعدم أن تنال منى سكين لص قاتل عربيد، في زقاق ضيق، تنام قربه دورية أمن متعبة، ليس من مهامها تعقب اللصوص والقتلة، وتتقلص مسؤولياتها مع ضيق الشوارع وظلام النواصى المعتمة. وإن لم تعجلوا ببيعي فلدي من الأدوية المزورة، وتعثر الأجهزة الطبية، وسوء أحوال قطاع الصحة، ما يكفى لإنهاء حياتي. وأنا أفضل أن أباع ،على أن أموت فقرا وظلما وتهميشا وغربة في الوطن.
يسكننى إحباط لا حدود له فأصدقائي يتناحرون من حولي، هذا يريد بلدا عربيا، وهذا يريد دولة خلافة، وذلك يريد دولة للسود وحدهم، وهنا من يكافح لإقامة بلد للبيض وحدهم، وهكذا . ضجيج لا ينقطع، من حولي رجال يصرخون بأنه لا مكان هنا لغير الأفارقة الزنوج ،وآخرون يرون أنه لا بقاء إلا لشريحتهم العربية البيضاء أو السمراء، أو فئتهم الاجتماعية الأكثر ضيقا. صراخ ونقاش وصل حد المطالبة بتغيير النشيد، ولاحقا سيطلب منا تغيير شعار الدولة، وعلمها واسمها وأسماء أبنائها المؤسسين.
وإن نظرت من حولي أجد الجميع يدمر بلدي، معارضة مريضة منهكة خائرة، تعتقد أن مشاكل البلاد هي في "الحوار" الذي تراه فانوسا سحريا يعيد الخضرة للأرض، والرغيف للفقير، والشباب للمسن . أغلبية لا هم لها إلا البيع والشراء، والثراء الفاحش. عدالة غريبة تحتفظ بهذا لأنه رفض الإقطاع، وتطلق هذا لأنه كان يقطع الرؤوس. فوضى لانهاية لها، عاصمة تغرق بوحل الجريمة قبل مستنقعات الأمطار، وفقراء يموتون مرضا وجهلا وفقرا وفاقة، وكأنهم ليسوا في وطن ينام على السمك والحديد والذهب والنحاس.
بيعوني لأي سمسار شئتم، ولو بحفنة تراب، أو محارة، أو ملعقة رماد، المهم أن تذهب "العمولة" إلى الحاكم بأمر نفسه، وشهبندر التجار. بأي ثمن ،لأية حديقة حيوان، أو مختبر تجارب، أو متحف أنتربولوجيا، أو هيئة بحث فى العاديات والأصناف الحيوانية المنقرضة مثل فصيلة "المواطنين" التى يقال إنها تنتمى لماقبل عصر الحجر الخشن، أو لهواة جمع قطع غيار البشر، حتى تلك "التايوانية" منها. في وطني هذا ،وبشكله الحالي العبودية أفضل من الحرية، والتحول إلى قطعة للبيع، أفضل من التشبه بالإنسان، والتشبث بحقوقه. ما الذي أفعله في وطن أكل الآخرون سمكه، ونهبوا ذهبه ،وتقاسموا نحاسه ،وأهلكوا حرثه ونسله، وأتوا على أخضره و يابسه ..؟!!
ما قيمة وطن لا أرى فيه ذاتي، وطن أعيش فيه تحت خط "التحشر"، فحتى الحشرات أفضل منى، فوطني لا يعطيني شيئا ،وأنا لا أعطيه شيئا، و كأنني وإياه خصمان وراثيا..!! علاقتي به مثل علاقة عمال "بوركينافاسو" بحكومتهم، علاقة اختصروها ذات مرة بالقول ( الحكومة تتصنع دفع رواتبنا ونحن نتصنع العمل لصالحها فهي لا تدفع ونحن لا نعمل) ما الذي سيبقى من وطن بيعت أرضه، وسماؤه، وبحره..؟!! باعوا القصور والقبور، باعوا المدارس بطباشيرها وألواحها ،وضفائرها وأجراسها ،وذكرياتها ودفاترها ،وطلاساتها وخبزها المحمر، والمستشفيات بحشرجات مرضاها، وحقن أطبائها ، وبلوزاتها، وأدويتها ،وأنات مراجعيها،باعوا الشهادات ، والنياشين، والأوسمة، باعوا الساحات والشوارع، باعوا أضرحة الصالحين ومزاراتهم، باعوا تربة الأولياء وبركاتهم،باعوا قصائد الشعراء، وحناجر البلابل، وفيروز الشطآن، باعوا القلوب والضمائر والأدمغة، باعوا إشراقه الفجر، وباعوا قمر الصحراء بعد ظهوره ب65 دقيقة، باعوا التاريخ والجغرافيا، باعوا كل شيء، والثمن يضعونه في حقائب يجوب أصحابها العالم وكأن آباءهم تركوا لهم مالا، وأوصوهم أن يشتروا به قصور الهند والسند، ومنتجعات فرنسا ،وحدائق المغرب، ومطاعم الخليج. بيعوني فأنا ملككم كيف لا ؟ وأنتم تستحلون الأرض كلها ،وما عليها، وما تحتها ، فما أنا إلا أحد هؤلاء الثلاثة ملايين مملوكي، الذين تضعون الحبال في رقابهم بعد أن بعتم المدارس لتجهيلهم ، والمشافى لإمراضهم، والساحات المفتوحة لخنقهم..!!
العبودية أحب إلي من حرية بلاستيكية، بلا طعم وبلا رائحة. بيعوني وبيعوا معي عظام آبائي وأجدادي، فلم يبق لديها ما تفعله في وطن لم يعد مسموحا لها بالنوم تحته بهدوء وسكينة. هو حلم وأفقنا منه، وطموح كفرنا به، وأمل لم نعد نعيش فى انتظاره. حلمنا كان وطنا، وطموحنا كان كرامة ،وأملنا كان استقرارا. اليوم فقدنا الوطن والكرامة وحلم الاستقرار.
ضعوا السلاسل في أيدينا وأقدامنا، وأخرجونا من "المغارة" على أعين "علي بابا" ، و"أربعينه" ،واستمتعوا برؤيتنا نجرها ألما ومعاناة وقهرا، المهم أن تتحسسوا جيوبكم وتتأكدوا أن "العمولة" دخلت جيب "السلطان"، وأن حلم شراء قصر أمير "ابروناي" لا يفصلكم عنه إلا صبر ساعة. إذا لم تجدوا من يرغب في شرائي فكورونى مع تراب الوطن وحجارته الصغيرة، عندها ستغشون أحدهم بعظامي، وأنتم تبيعونها خفية مع تراب الوطن وحجارته، وإن سألتم فقهاء "السلطان" فسيقولون لكم إنه بيع صحيح، فأنتم بحكم "فقه المرحلة" معصومون من الرباء والرياء، وما تقومون به في حقنا وعلى أرضنا هذه هو "تصرف المالك في ملكه" ويسمى عدلا لا جورا.
سيحاسبكم تاريخكم لا تاريخنا، فنحن بلا تاريخ وبلا حاضر وبلا مستقبل، إذا بقيت حشرة واحدة من حشرات هذا الوطن خارج صفقات بيعكم، وقد لا تعرفون ،وليس مطلوبا منكم أن تعرفوا أن التاريخ لا يرحم.
بقلم : حبيب الله ولد أحمد