سِمات تحول الفكر الشنقيطي
لا مجال لوصف بلاد بفكر معين سوى من باب المجاز أو من باب وصف الجزء بالكل كما هو حال وصف فرنسا مثلا بالفكر الفرنسي أو آمريكا بالفكر الآمريكي..وهكذا، وإن كان هذا تقليد تاريخي معهود ، ومنه فقد جاز لنا أن نصف شنقيط بفكر خاص بها مع الإشارة إلى أن شنقيط هي تسمية لإحدى المدن القديمة لازالت شواهدها حية وفي التاريخ الراهن تطلق على موريتانيا المعاصرة منذ أن سماها الفقيه سيدي عبد الله ولد الحاج إبراهيم(ق18م) بذلك الإسم وأصبح علما لها بين المشارقة.
ويمكن تلخيص الفكر الشنقيطي قديما_ منذ حكم المجموعات الصنهاجية مرورا بالمرابطين والإمارات والمشيخات_ في نصانية فقهية تتخذ من فقه الإمام مالك مذهبا لها ومن تعقيد الأشعري عقيدة لها ومن تصوف الجنيد طريقة لها، وهذا يمكن فهمه في سياق صحراوي تمتهن ساكنته الترحال تبعا لمواطن الكلأ والغيث بعيدا عن تعقيدات التمدن والإستبحار في معالم الحضارة ومايترتب على ذلك من شيوع الفلسفات وعلم الكلام والصراع الأيديولوجي للفرق والحركات العقلانية وكلما هو كمالي من عصارة التفكير بتعبير إبن خلدون.
ومن الطبيعي أن يشهد الفكر الشنقيطي تحولات هائلة مؤدى ذلك هو ماصاحب الحركة الإمبريالية الفرنسية وكيف تحولت نظم الإمارة من حيزها البدوي البسيط إلى نوع من الفردانية القبلية في أنساق حديثة هي الأحزاب والنقابات والتنظيمات السياسية في منتصف القرن العشرين إلى مابعد الحداثة الإستعمارية والعقل الذي سينبثق عن تلك الفترة ويسميه البعض بتركة الإستعمار في ظل الإستقلال.
وتركة الإستعمار هذه ليست سوى نقل واستنبات للصراعات اليسارية والقومية والبعثية والشيوعية والراسمالية التي انتشرت على نطاق واسع في فترة صراع السوفييت مع حلف شمال الأطلسي.
صحيح أن رأسلمال قد غلب أشكال الأدلجة الوافدة وجعل الفرد الموريتاني حبيس لحاجيات السوق المتوحشة واللا متناهية إلا أن هذا الغلب له أسبابه الخاصة والتي تتلخص في ضعف أنماط تلك الأدلجة وسبل ترويجها في أطر نفعية سرعان ما انكشف غِطائها وباتت واضحة للعامة والنخبة إضافة لما استجلبته الهجرات الحديثة من تفكير يختلف جذريا في الزمان والمكان عن طبيعة التفكير ونمط العيش والتحضر المحلي مما غوض مشاريع الإصلاح والتعددية الفكرية وانعكس ذلك على الساحة الثقافية المحلية ليتحول هذا التعدد لصراع عقدي بين منتج المحظرة كمؤسسة تقليدية لها دورها التاريخي في حفظ التراث وبين تقاليد الليبرالية المستنسخة عن تاريخ الأنوار الفرنسي وفلسفته الثورية!
ليست موريتانيا بدعا من مثيلاتها ومن التقوقع والتحجر بمكان القول بأن ماصلح لغيرها لايصلح لها أو أنه يستحيل أن تأخذ من حيث أخذ العالم ،إلا أن إقتطاع الأفكار والعقليات من سياقاتها الحضارية والزمكانية واستخدامها في سياق آخر يختلف جذريا لهو درب من التكلف والتناقض.
ومن نافلة القول أن حركة التأليف التي شهدها القرنين 18و19 ميلاديين واستمرت مع بروز التيار الأكاديمي في ثمانينيات القرن الماضي قد تراجعت بشكل كبير بحيث تلخصت المؤلفات حديثا في كتب السيد ولد الباه في الفلسفة العامة وحماه السالم في التاريخ الوسيط والحديث والبكاي عبد المالك في الفلسفة السياسية الخاصة وولد السعد في التاريخ المعاصر وبعض الترجمات وغير هؤلاء من أساتذة الجامعة والقلة من الشعراء والروائيين وناظمي وناثري أنظام الفقه التقليدي.
كل هذا يوضح بصورة أو بأخرى مدى التحول العميق الذي عرفته الثقافة الشنقيطية في بعدها النظري منذ أيام البادية إلى عصر المدينة، إذ يرى الكثيرون بأن فقهاء بلاد شنقيط منذ قرون قد مدوا جسور المعرفة بين المشرق والمغرب وظلوا سفراء لنقل التجربة المحلية واستجلاب الفقه المدني .
فهل تستعيد الحركية النخبوية نشاطها العلمي والتأليفي بوتيرة متسارعة لإثراء الساحة المحلية وتحسين الأوضاع؟
ميني أحمد ابراهيم