المحامي يعقوب ولد السيف
في 27 يوليو2020 أعلن عن مصادقة البرلمان الموريتاني على مقترح قانون نظامي يعدل ويكمل للقانون النظامي رقم 2008-021 الصادر بتاريخ 30 إبريل 2008 المتعلق بمحكمة العدل السامية مع مراعاة التعديلات التي اقترحتها لجنة العدل والداخلية والدفاع، بالإضافة إلى التعديلات التي تقدمت بها الحكومة؛
مؤكد أنه بعد المصادقة على ذلك القانون النظامي تمت إحالته عن طريق الوزير الأول إلى المجلس الدستوري:" يحيل الوزير الأول القوانين النظامية التي يتم إقرارها من طرف البرلمان إلى المجلس الدستوري ..." (المادة 17 من الأمر رقم 92-04 الصادر بتاريخ 18 فبراير 1992 المتضمن القانون النظامي المتعلق بالمجلس الدستوري، المعدل)؛
استقر بالممارسة منذ أمد ليس بالقصير أن تقترن مثل تلك الإحالة بإعلان حالة الاستعجال ما يقلص أجل البت من شهر إلى ثمانية أيام:" ينطق المجلس الدستوري بحكمه في أجل شهر، ويخفض هذا الأجل إلى ثمانية أيام في حالة الاستعجال عندما يطلب رئيس الجمهورية ذلك (المادة 86/ دستور20 يوليو، المعذب)، أو يعلن الوزير الأول في رسالة الإحالة حالة الاستعجال" (المادة 25/الأمر القانوني رقم 92-04)؛
وجرت العادة أن لا يحتاج المجلس الدستوري لإكمال عدة الأيام الثمانية؛
ما يعنى أن قرار المجلس الدستوري بشأن دستورية القانون النظامي لمحكمة العدل السامية قد أبلغ لمن يهمه الأمر.
لو تعلق الأمر بقرار يتضمن إعلان مطابقة القانون للدستور لكان القانون أحيل إلى رئيس الجمهورية لإصداره: "يرسل قرار المجلس الدستوري إلى رئيس الجمهورية بغية نشره في الجريدة الرسمية ..." (أمر تنظيمي رقم 001-92 بتاريخ 18 يونيو 1992 المتعلق برقابة المجلس الدستوري)
إصدار القوانين من صلاحيات رئيس الجمهورية وهو يصدرها بعد ثمانية أيام على الأقل وثلاثين يوما على الأكثر من إحالتها إليه (المادة 70 / دستور 20 يوليو المعذب)
حتى حينه لم يجد القانون طريقه للنشر في الجريدة الرسمية، ومثله قرار المجلس بشأن دستوريته؛
عدم صدور القانون النظامي لمحكمة العدل السامية رغم انصرام الآجال القانونية تلتمس مبرراته في ما أقره المجلس الدستوري بشأن ذلك القانون؛ فتعهد المجلس يعلق مدة الإصدار (المادة 86/دستور 20 يوليو)، بل ويمنعه حال تقرير عدم الدستورية (المادة 87/ دستور 20 يوليو)
بالرجوع للنسخ المتاحة من مقترح القانون المتعلق بمحكمة العدل السامية يمكن ودون كبير عناء ملاحظة وجود مقتضيات غير دستور، لعلها لم تفت على المجلس الدستوري؛ لذلك توقف الإصدار لحين مراجعة القانون على ضوء قرار المجلس من ذلك:
أولا-الاختلاف في (المادة 32) من مقترح القانون المصادق عليه بين النص العربي وما ورد في النسخة الفرنسية:
" تطبق أحكام قانون الإجراءات الجنائية أمام محكمة العدل السامية، مع مراعاة مقتضيات هذا القانون النظامي"
" Les règles fixées par le Code de procédure pénale concernant les débats et les jugements en matière correctionnelle sont applicable devant la Haute Cour de Justice en tenant compte des dispositions prévues par cette loi "
نص النسخة العربية هو الأصل، لكن المشكلة أن النقص شابه دون نظيره الفرنسي؛ حيث يحدد النص الفرنسي من مجمل قانون الإجراءات الجنائية ما يطبق أمام محكمة العدل السامية في: "المسطرة المتعلقة بالمرافعات والحكم" حصرا. بينما النسخة العربية تقول بتطبيق قانون الإجراءات الجنائية مطلقا! رغم استثنائية محكمة العدل السامية وتوجه الإجراءات الجنائية -غالبا-لتنظيم المساطر الطبيعية والعادية.
وفى الواقع فإن النص الفرنسي ترجمة وفية لنص (المادة 32 /القانون النظامي رقم 2008-021 الصادر بتاريخ 30 إبريل 2008 المتعلق بمحكمة العدل السامية) التي نصت على:" المسطرة الجنائية المتعلقة بالمرافعات والحكم في المواد الجزائية تسري على المرافعات أمام محكمة العدل السامية، مع مراعاة التعديلات المذكورة في هذا القانون"، ما يستدعى التوقف عند الدافع لتغيير الصيغة العربية للمادة!
في قضاء المجلس الدستوري الموريتاني يرتب الغلط في النسخة العربية رغم سلامة النسخة الفرنسية عدم إعلان مطابقة المقتضيات التي شابها الغلط للدستور.
ومع ذلك فإن المجلس لا يعد تلك المقتضيات مخالفة للدستور، بل يعلنها "مطابقة للدستور شريطة تأويلها طبقا للتحفظات الدقيقة التي يوردها عند تسبيب القرار "(القرار رقم 027/إ.م ، بتاريخ 14 سبتمبر 2007)
للتصنيفات التي يعتمدها المجلس الدستوري لتقرير موقفه من دستورية المقتضيات التي تعرض عليه آثار بالغة على مصير النصوص؛ فتجد المقتضيات المطابقة للدستور طريقها للنشر دون عارض، أما المقتضيات المخالفة فيميز فيها بين:
-مقتضيات يمكن فصلها عن مجموع القانون، وهذه يمكن لرئيس الجمهورية أن يصدر القانون باستثنائها أو يطلب من البرلمان قراءة جديدة للقانون تراعى قرار المجلس الدستوري بشأنها (المادة 23/الأمر القانوني رقم 92-04 الصادر بتاريخ 18 فبراير 1992 المتضمن القانون النظامي المتعلق بالمجلس الدستوري، المعدل)
-مقتضيات على ترابط مع غيرها من باقى فقرات النص، وهذه تلزم مراجعتها من البرلمانيين وفق ذات الإجراءات التي أخضع لها القانون حين المصادقة عليه قبل إحالته.
الصورة الأخيرة تنطبق على ما شاب نص (المادة 32)؛ حيث تؤثر الفقرة التي سقطت من النص العربي على باقى القانون.
فوق ذلك يحتم خضوع (المادة 32) لمراجعة الغرفة التشريعية أن الأمر يتعلق بإضافة لا بمجرد حذف؛ وإنما شرع حذف المقتضيات اللادستورية لرئيس الجمهورية بالشروط السابقة دون حق التصحيح أو الإضافة.
ثانيا-صياغة (المادة 35) من مقترح القانون التي تمت على نحو يضعف مركز المحاكمين من قبل محكمة العدل سامية:
كان المجلس الدستوري في قراره 2007-027 /إ.م ، قد اعتبر أن "مركز المدانين من محكمة العدل السامية لا يمكن أن يكون أقل من مركز عتاة المجرمين المدانين في جرائم القصاص والحدود وغيرها الذين يمكن لهم من إمكانية الطعن بالاستئناف والنقض .... فمن باب المساواة، على الأقل، أن يتمتع المحاكمون أمام محكمة العدل السامية بحق الطعن بالنقض على الأقل، فمن أجل ضمان حرية الأفراد وحقوقهم لا بد أن يفتح لهم الباب بأن تنظر محكمة أخرى قضيتهم "
ورتب من ثم على عدم منحهم حق الطعن بالنقض على الأقل عدم دستورية (المادة 35) من مقترح القانون رقم 2008-021 التي كانت تجعل قرارات محكمة العدل السامية غير قابلة للطعن، ما دفع إلى مراجعتها لتستقر صياغتها على النحو التالي:" لا تقبل قرارات محكمة العدل السامية أي طعن غير طلب الرجوع الذي يقدم خلال شهرين من تسلم قرار المحكمة في شكل مذكرة مفصلة تودع لدى كتابة ضبط المحكمة ولا يكون لهذا الطعن أثر توقيفي، وتبت فيه المحكمة بتشكلة مغايرة"
إن استجابة تعديل المادة 35 لما وجه به قرار المجلس الدستوري وفر لمن يحاكمون أمام محكمة العدل السامية الحق في نظر قضيتهم من تشكيلتين مختلفتين من خلال "طلب الرجوع"
لكن "طلب الرجوع" الذي ورد في هذه المادة هو في الواقع أقرب للطعن بالاستئناف منه للطعن بالنقض؛ فهو هنا عمليا ليس طعنا استثنائيا معلقا على توافر الشروط المنصوص عليها في (المادة 569 إجراءات جنائية) التي اشترطت لتأتي التماس إعادة النظر:" في القرارات القضائية الصادرة عن المحكمة العليا أو تلك التي صدرت عن محاكم الاستئناف إذا حازت قوة الشيء المقضي به وكانت تقضى بالإدانة في جناية أو جنحة:
1-عندما تقدم مستندات بعد الحكم بالإدانة في جناية قتل يترتب عليها قيام أدلة كافية على وجود المجني عليه المزعوم قتله على قيد الحياة؛
2-عندما يصدر قرار أو حكم جديد يدين لنفس الواقعة متهما آخر بعد الإدانة السابقة من أجل جناية أو جنحة بحيث لا يمكن التوفيق بينهما، والتناقض الحاصل بينهما يدل على براءة أحد المحكوم عليهما؛
3-عندما يدان من أجل شهادة الزور أحد الشهود الذين شهدوا ضد المحكوم عليه، وكانت شهادته سببا في الإدانة؛
4-عندما تظهر أو تكتشف واقعة أو تقدم وثائق كانت مجهولة وقت الحكم ويكون من طبيعة كل منهما أن يثبت براءة المحكوم عليه."، إنه حق تلقائي في الطعن في أي حكم تصدره محكمة العدل السامية.
في صيغة المادة 35 من القانون 2008-021 تبت في طلب الرجوع " المحكمة بتشكلة مغايرة"، ما يعني أن أي تشكلة لمحكمة العدل السامية يطعن في قرارها يتم انتخاب تشكيلة جديدة بديلة عنها (قضاة وأخلافا)، وترتيبا على ذلك فتح الباب من جديد لمرافعات جديدة.
لكن استبدال مقترح القانون النظامي المعدل والمكمل للقانون النظامي 2008-021 الذي صادق عليه البرلمان وعرض على المجلس الدستوري لعبارة: "وتبت فيه المحكمة بتشكلة مغايرة" ب:"وتبت فيه المحكمة طبقا لقانون الإجراءات الجنائية" يدفع للاعتقاد بتوجه جديد لاعتماد المعنى الفني لالتماس إعادة النظر كإحدى طرق الطعن الاستثنائية، تمهيدا للالتفاف على حقوق المحاكمين أمام محكمة العدل السامية في أن تنظر قضاياهم دون شروط من أكثر من تشكلة قضائية.
ثالثا-الأحكام الانتقالية الواردة في (المادة 38) التي نصت على أنه "استثناء من أحكام المادة 2 من هذا القانون، تشكل محكمة العدل السامية في أول دورة برلمانية تلي صدور هذا القانون " تعد من قبيل الحشو وفيها قفز على الدستور الذي تولى تحديد تاريخ تشكيل المحكمة وانتخاب رئيسها؛ فنص في (المادة 92) على أنها تشكل:" بعد كل تجديد للجمعية، وتنتخب رئيسا من بين أعضائها"
إن سعي القانون النظامي للحصول على احترام لم يتمتع به الدستور يعد طموحا غير دستوري؛ فخلال تسع وعشرين سنة التي هي عمر الدستور، ورغم وجود نص دستوري يلزم بتشكيل المحكمة عند كل تجديد عام أو جزئي أيام برلمان الغرفتين، أو كل تجديد منذ إلغاء مجلس الشيوخ لم تشكل محكمة العدل السامية إلا مرة واحدة.
عند المجلس الدستوري خبر اليقين عن واقع محكمة العدل السامية، فحضرة رئيس المجلس كان ذات تعديل دستوري صوتت عليه الجمعية الوطنية قبل أن يسقطه الشيوخ سنة 2017 عراب مشروع تعديل يلغي وجود هذه المحكمة أصلا:" تلغى محكمة العدل السامية. رئيس الجمهورية، الوزير الأول، وأعضاء الحكومة يحاكمون على الأفعال المقررة في المادة 93-الموالية، من طرف تشكلة من أعلى النظام القضائي. يحدد قانون نظامي تكوين التشكلة وقواعد سيرها وكذلك المساطر المطبقة أمامها" (المادة 5 من مشروع القانون الدستوري المتضمن مراجعة دستور 20 يوليو 1991 والنصوص المعدلة له)
صحيح أن إلغاء محكمة العدل السامية سقط بعد العجز عن تمرير التعديل عن طريق المسطرة التشريعية واختفت الفقرة المتعلقة بالمحكمة من مشروع القانون الدستوري الاستفتائي الذي تمت المصادقة عليه، لكن تثبيت المقتضيات الدستورية المقرة لها لم يترتب عليه تعديل قانونها النظامي ليتواءم مع الوضع الجديد للبرلمان الموريتاني، أما وجود المحكمة وقيامها بدورها فذلك موضوع آخر