تجربة إصلاح التعليم من خلال التفاعل
ينعقد إجماع الموريتانيين على ضعف منظومة التعليم في بلادهم ، وإخفاقه في تحقيق الأهداف المنشودة منه ، وفي مقدمتها تعميم التمدرس و تكافؤ الفرص و الاستفادة من تعليم عصري يتسم بالجودة و يستجيب لحاجات سوق العمل ، فَلسْتَ بحاجة لأن تكون خبيرا تربويا لتلحظ الأمر، فالخلل جلي يراه المعلم في صفه، وولي الأمر في بيته ، ويمضي كلاهما في الحديث حول هذا الأمر كلما سنحت فرصة تجمع بينهما، لعلهما يصلان إلى حل يغير من الواقع شيئاً.
ولم يخف رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني موقفه من نازلة التعليم في بلاده، فأثناء الحملة الانتخابات في يونيو/حزيران من العام الماضي، أعلن في أكثر من خطاب انتخابي أن التعليم يحتاج إلى الإصلاح، وهو ما ظهر في تسمية وزارة التعليم الأساسي، التي أضيف إليها "إصلاح التهذيب".
وفي مفتتح العام الدراسي 2019 - 2020 أشرف ولد الغزواني على الافتتاح الدراسي، بعد أن ظل العام الدراسي يفتتح كل سنة بخطاب لوزير التعليم والتهذيب تبثه وسائل الإعلام الرسمية.
الرئيس قال في خطابه بالمناسبة إن "المدرسة الجمهورية" هي الضامن الوحيد لصيانة الوحدة الوطنية بين مكونات الشعب الموريتاني، وهي التي ستعطي أبناء الشعب الفرصة لتلقي المعرفة من دون تمييز وبعدالة ومساواة.
وترجمة لهذا الاهتمام الرئاسي جاءت التشكيلة الحكومية موثرة التعليم ب 3 حقائب وزارية هي؛ وزارة التعليم الأساسي وإصلاح التهذيب، ووزارة التعليم الثانوية والفني، ثم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.
وقد قدم وزراء الوزارات الثلاث في مجلس الوزراء الأخير بيانا مشتركا حول مراجعة برامج التعليم الثانوي، وإعادة النظر في مناهج المدرسة العليا للتعليم، ومراجعة الكتب المدرسية ، واستعرض البيان الخطوط العريضة لمراجعة أصبحت ضرورية لبرامج التعليم الثانوي ولمقررات المدرسة العليا للتعليم من أجل التمكن بصورة مناسبة من تلبية مستلزمات الإصلاح التربوي الوطني الذي ينتظر أن تصل الأفواج الأولى المنبثقة عنه إلى المرحلة الثانوية في غضون ست أو سبع سنوات ــ حسب تعبير وزير التعليم الثانوي ــ .
لكن تبني أزمة التعليم ، والإعلان عن السعي لإصلاحه ليس جديدا في تاريخ النظم الموريتانية ، فقد شغل إصلاح التعليم الأنظمة السياسية المتعاقبة منذ الاستقلال ، ورفعت شعاراته إصلاحه في فترات حكم مختلفة الأهداف والنظريات ، وذلك ما أفرز سلسلة إصلاحات كان أهمها إصلاحات 1967- 1973 – 1979- 1999،م ، ورغم ما رصد لهذه الإصلاحات من تكاليف مالية باهظة إلا أنها تميزت بقلة الفاعلية وضعف المردود، ولعل ذلك راجع إلى مجموعة سمات يجمعها التوصيف التالي: "الشكلانية في التغيير، الإرتجالية في التنفيذ، السطحية في المعالجة، العمومية في التخطيط، التقليد والمحاكاة في النماذج"
إن جُلَّ هذه الإصلاحات ركزت على الكم دون الكيف، فتفاخر بعدد المتمدرسين والهياكل والمؤسسات دون قياس نوعية التعليم ونسبة المخرجات بناء على نسبة المدخلات، والقيمة المضافة التي يقدمها التعليم في التنمية الشاملة.
كما كان للتجاذب الإيديولوجي وإقحام الصراع الهوياتي في عملية مراجعة وإصلاح المناهج والكتب التعليمية، دوره في إخفاق هذه الإصلاحات ، واقتصارها على استيراد الأنماط الجاهزة والمقاربات التعليمية للدول الغربية التي تختلف رأسا عن بيئتنا السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والوظيفية والإدارية، واعتبارها الأنموذج الأمثل للإصلاح، وفي أحيان كثيرة تكون هذه النماذج مفروضة بصفة فوقية ، هذا فضلا عن غياب الرؤية التكاملية والاستراتيجية لسياسات الإصلاح التعليمي، فهي تركز في غالبها على تعديل المناهج والبيداغوجيات وبصفة مثالية غير منسجمة مع خصائص البيئة التعليمية الوطنية، مع إهمالٍ شبه كلي لمسائل تنمية الموارد البشرية والكفاءات التعليمية للأستاذ والإرتقاء بالمناخ الوظيفي والبيئة التنظيمية العامة للمؤسسات التعليمية، فلا يمكن زراعة نبتة في غير تربتها لأنها في النهاية لن تثمر أبدا.
ولعل الحقيقة الأبرز هي أن ما ينتاب مؤسساتنا التعليمية من معضلات ومظاهر اعوجاج سواء في الطور القاعدي أو الجامعي، هو حصيلةُ إخفاقات متراكمة للسياسات التعليمية المتبناة، إضافة إلى الوضع المأساوي الموروث من العهد الاستعماري، فالبحث في معضلات التعليم يجب أن يتوجه بالأساس إلى تقييم السياسات التعليمية وإفرازاتها على شتى المستويات ، والبحث في صلب هذه الإشكالات ، التي أنتجت عدم فاعلية المؤسسات التعليمية وأقسام التدريس في ظل تعاظم وتقدم المتغيرات المجتمعية ومستحدثات العصر التكنولوجي بمسافات بعيدة، فإلى اليوم لا تزال أنماط وحجرات ووسائل التدريس عندنا تعود إلى أزمنة غابرة ولم تتكيف بَعْدُ مع الواقع الجديد، الذي أصبح متفوقا بوسائله الاتصالية وقدراته الرقمية والتعليمية على قدرة المؤسسات التعليمية على التأثير في المجتمع وأفكار وسلوك المتعلمين، مما ساهم في اتساع الفجوة الرقمية والمعرفية بين المؤسسة التعليمية ومحيطها الاجتماعي ، وساهم في سيطرة نظرية الحشو المعرفي والتراكم المعلوماتي بدل بناء أنظمة التفكير الناقد لدى المتعلم وتطوير مهاراته الإدراكية بطريقة تنمي في التلميذ ملكة الإبداع والقدرة على حل المشكلات وتوظيف المعارف بدل تجميعها لأجل اجتياز الامتحانات الدورية ثم إهمالها.
كما همشت هذه الإصلاحات المتتالية الأستاذ وحجّمت دوره في العملية التعليمية باعتباره منفذا للسياسات لا شريكا في صناعتها وتطويرها ، ففصلت الأداء التعليمي عن البيئة التنظيمية والوظيفية للأستاذ، وغدا همُّ وزارات التعليم هو تحقيق نسب تعليمية عالية وأداء تعليمي متماش مع معايير الجودة،في ظل بيئة وظيفية طاردة وقاتلة للإبداع والتحفيز على الأداء الجيد.
إن السمات السابقة، جعلت مشاريع إصلاح التعليم بموريتانيا تعمق المشكلات التعليمية بدل أن تفرز حلا لها ، وهو ما دفعنا اليوم في موقع "نوافذ " لمواكبة الإصلاح الجديد بفتح هذه النافذة التي تسعى إلى أن تكون منبرا تربويا للخبراء والفاعلين في مجال التعليم ، ينشرون عبره اراءهم في عملية الإصلاح ، ورؤاهم لجعله مختلفا عن سابقيه .
غير أن الفهم الأوسع لأبعاد المشكلة لايثير اليأس؛ إذ من شأن مقاربة كليّة شاملة للإصلاح أن تشير إلى مقترحات مبتكرة وبنّاءة وحافلة بالأمل.
فلا ينبغي أن يقتصر الإصلاح على طرح سلسلة من التغيرات المحددة في المناهج الدراسية القائمة لتلبية احتياجات سوق العمل اليوم. بل لابد من أن يكون التركيز، بدلاً من ذلك، على بذل الجهد لدفع المجتمع، على جميع الأصعدة (من القيادة السياسية، والموظفين العموميين، والمدرّسين، والطلاب، والأهل، والمجتمع المحلي) إلى بلورة الرؤى حول التعليم في مجتمعاتهم. ويجب أن تقوم هذه الرؤى بدرجة أقل على المواد التي يجب تعليمها في المدارس، وبصورة أكبر على كيفية تطوير عملية تعليمية تدمج ما يجري في الصف وخارجه، وفي موقع العمل، وفي وقت الفراغ، ولفترة طويلة بعد التخرج.
إن التفكير في ضرورة أخذ العبرة من إخفاق الإصلاحات السابقة ، والسعي لبناء إصلاح مختلف ومغاير دفعنا لفتح هذه النافذة "على إصلاح التعليم في موريتانيا " ، تزامنا مع إعلان الوزارات المعنية السعي لمراجعة برامج التعليم ومناهجه ، انطلاقا من قناعتنا أن نظام التعليم ليس سوى وحدة فرعية ضمن نظام مجتمعي متشابك ومتفاعل، ولا يمكن تقييمه بمعزل عن نسقه العام ، وبقية الأنظمة في المجتمع: السياسيةُ والاجتماعيةُ والثقافيةُ والاقتصاديةُ..
وبناء عليه فإصلاح التعليم هو عملية استراتيجية شاملة يجب أن ينخرط فيها الجميع دون استثناء بوعي تام وإرادة حقيقية، ولا يمكن أن يقوى عليه الوزير بمفرده أو الهيئة التدريسية لوحدها، بل هو هَمُّ أمة بأكملها، ينعكس في إرادة المسؤول السياسي وإيمانه بقدرة التعليم على صناعة التغيير المنشود وامتلاكه لخطة استراتيجية متكاملة وواضحة المعالم للنهوض بالتعليم ومعالجة اختلالاته والدفع به نحو مسار الارتقاء، خطةٌ تجمع بين الفريق الحكومي في أداء منسجم، وليس وزارات التعليم لوحدها، فأعباء التعليم ومعضلاته تتشابك مع العديد من القطاعات سواء على المستوى الوظيفي أو المستوى الاقتصادي والمالي والثقافي والديني والصحي.. الخ. كما تشترك في ذلك جميع فئات المجتمع إسنادا وإمدادا .
وربما كان التحدي الأكبر وغير المعترف به لإصلاح التعليم، هو أنه يُطلب من المدارس أن تنجز الكثير في عالم يحدث فيه التعليم قبل المدرسة، وبعدها وخارجها – أي في البيت والمجتمع الأوسع. ويعني ذلك أن للسياق الاجتماعي الكلي الذي تعمل فيه المدارس تأثيراً عميقاً على مايجري في الفصول الدراسية. ولايمكن تكليف المدارس القائمة وحدها بمهمة الإصلاح التعليمي كمواقع معزولة، بل ينبغي أن تعتمد هذه المهمة على إعادة النظر في دور المدرّسين والمدارس بوصفه جزءاً من النسيج الاجتماعي الأوسع للتعليم.
إن الاعتراف بهذا الواقع سيساعد المجتمعات على إعادة تعريف ما هو مطلوب من المدارس والمدرّسين وإعانتهم في ذلك بدلاً من مطالبتهم بالقيام بها وحدهم. ولايمكن، بل لاينبغي عزلهم وفصلهم عن العائلة والمجتمع المحلي، بل يجب أن يتفاعلوا بصورة نشطة ليكون للتأثيرات المختلفة (الرسمية وغير النظامية) على تعلم الطلاب دور تكميلي ، وهذا ما سيكرسه هذا المنبر التفاعلي .
إننا عبر هذه النافذة نسعى لإصلاح التعليم من خلال التفاعل بين الخبراء ، والمدرسين ، والفاعلين في المجتمع ، لنرسم معا مسار الإصلاح الذي نريده ، ونحدد ماهية التغيير التي ننشده ، ونبني المدرسة التي نطمح لتشييدها ، ونبين مجالات الإصلاح وإمكاناته، بدءاً من المدارس نفسها، ومروراً بالأطر الرسمية التي تعمل فيها، وانتهاءً بالتأكيد على المجتمع برمّته ، لنشكل معا بوصلة للمراجعة المزمعة لبرامج التعليم في ضوء الإصلاح التربوي قيد الانطلاق.
فأهلا بكم جميعا عبر هذه النافذة ، أساتذة ومفتشين وخبراء ، وآباء ، وقادة رأي ، وصناع قرار ، للمشاركة ما عليكم غير مراسلتنا على العناوين التالية :