…المكان شاطئ المحيط الأطلسي … الشمس تخلع آخر ثيابها الداخلية لتغرق فــــي المدى الممتد إلى المجهول وتمتزج حمرة أشعتها المودعة بزرقة البحر الهائج ، الناس علــــــى الشاطئ بين هيط وميط , نزل من السيارة ليرى البحر لأول مرة في يقظته، نعم ليراه حقيقة لا صورة شعرية أو لقطة دعائية على الشاشة الصغيرة ، سار فـــــي خطى الواثق من نفسه الذي تعود زيارة البحر وتعوده البحر ، وخيل إلــــــــــيه أن ولد آدم كلهم قد حضروا ليشهدوا النهار يحتضر ويجود بآخر أنفاسه وأنهم يتأهبون لتشييع جنازته ، رأى البحر غولا يبتلع الشمس رويدا رويدا , البحر دنيا العجائب والأسرار , أمواجه المتصارعة مع نفسها هي لغته ورسائله إلى زوار الشاطئ , تخلق فيهم مزيجا من أنس ووحشة , من انجذاب وخوف , من متعة واضطراب…
الفتيات على الشاطئ عابثات لاهيات، هذه تنزوي فـــــــــــي حجر ربوة صغيرة مع أنيس يتدفق من فمه الدخان كبئر نفط تحترق، وتلك تسير حافية القدمين فـــــي مشية إوزية ساذجة، وهنالك شابــــــات أكثر شقاء و أشد عبثا يتناولن كــــــل مار بنكتة وشغب، أما هو فقد مر بسلام ولعله لم يبلغ عندهن مستوى الـــنكتة فضنن بها عليه إذ كل ما يظهر منه صارف عنه ، نعلاه حديثتا عهد بإصلاح وتجميل إلا أن رطوبة الــــبحر وانغراسهما في الحصباء الرخوة مساهما بعطب يتطلب علاجا مستعجلا، هكذا استفاد مـــــن سوء الــــمظهر ورثاثة الـــــحال , فقد نفعاه في هذه اللحظة الشعرية كما ينجو السفلة من ضرائب الشرف الــــــقبلي، تقدم إلـــــــى البحر , بل إن ألسنة أمواجه كانت تلحس قدميه لحسا خفيفا ومسرعا فيه حذر شديد ، فساءت الحالة الصحية لنعليه واحتاجتا إلى إسعاف عاجل .
وقف على الشاطئ ورأى البحر وأمواجه ورأى المساء المتسارع مع هدير الأمواج ، وحانت لحظة القفول فعرج على الأحمدي والميناء وسوق السمك ورأى مستخرج الملح.
وفي الصباح كانت الــرحلة إلى البنك وثم التقى اثنين من أصدقائه وكان من نعم الله على ثلاثتهم أن زائرات البنك في ذلك الصباح لما رأينهم لم يكبرنهم ولم يقطعن أيديهن قائلات حاشا لله ما هؤلاء بشرا إن هؤلاء إلا ملائكة كرام .
كانوا بين تلك الجموع التي يتنفس فيها النعيم والبذخ والموضة , كرعاة بداة يجلبهم مسترعوهم إلى المدينة للتصويت أو لركوب الجمال في استقبال أمير البلاد , فيظهر التشاكس والتنافر بين مظهرهم في الدراعة الجديدة المنتفخة من آثار الصمغ والصباغة وبين ما يتراكم على أجسادهم من آثار التعب وشظف العيش ولفح الشمس وجفاف الصحراء…مع التحملق في كل شيء ..من ديار الحكومة …
توجه إلى زميلين كريمين ليستريح معهما باجترار حكايات الطلبة ، واستعادة بعض الإشراقات أيام رحلة التحصيل العلمي , أما أحدهما فقيل له إنه أصبح تاجرا فـــــــي مستودع للإسمنت ، وأما الآخر فأخبروه أنه هجر مكتبه منذ زمن طويل وأصبح في دكان لبيع الحديد…..استحضر قصة أهل الكهف…
بدا لصاحبنا أن يبتاع حقيبة من “كوماديس” ومنها اشترى أول “سامسونيت” صغيرة باقتراح من مديره السيد المنير ولد الطلبه ليتميز عن التلاميذ وينجو من رفع الحارس “صامبو” له ليبعده عن باب الأساتذة إلى باب التلاميذ.. ويتوقى ملاحقة المراقبة بنت عبد الفتاح له ليدخل الصف..وقف على الرصيف ..افتقد طابور المتسولين الطويل…ولم ير الخياط “مورتلا” الذي كان يعيد تطويع أقمصة “فوكوجاي” لتتناسب مع حجمه…لم ير صف ممتهني خياطة اليد وهم ينحنون في أبدية الصمت والخشوع والانقطاع لما خلقوا له…لم ير العنوان الكبير “كوماديس بيع لكس”…سأل بعض المارة فظن بعضهم أن به مسا من الشيطان…لا أحد يعرف أو يذكر هذا الاسم….اتصل على واحد من الزملاء ليلتحق به..وقفا أمام محلات تعرض بضاعتها من وراء واجهات زجاجية تساعدها مصابيح داخلية تطلق على البضاعة أنوارا تكسبها ألوانا خداعة…تحمل كلها أرقام هواتف….اتصل و فاجأته امراة …أوقف الاتصال مذعورا ليشرح لصاحبه نحس الطالع ..امراة…
صاحبنا يخاف النساء ، لم ينس وجيب قلبه في تلك الليلة التي وجد فيها نفسه وجها لوجه مع فتاة بعد أن انقشع الحفل ، و ما أعاد إليه هدوءه إلا بطة فازلين يدلك بها صدره ليهدأ تلاحق أنفاسه ، أعاد صاحبه الاتصال متوكئا على قسم ..يحلف أنه يفضل خمسين أوقية على كل النساء”…ألو ذيك ملات البتيك؟؟؟..تجيب المسكينة “جيتك حنيني نتغد”…ولقسوته يرفض الانتظار ويتدلل بالبحث عن غيرها فالسوق مفتوحة وهو بالخيار…ونزلت الزرقاء..كل شيء أزرق…الملحف ..النعل…البنطلون…السيارة…وقبل أن تصل أخرج البطل ورقة مائتي أوقية وقال لها خذي لي بيضتين ومسواكا من عند ذيك الكوريه…وأردف ثلاث بيضات واحدة لك أنت…لست أدري أي سحر جعلها تلبي الطلب بسرعة…للرجل لا شك بركة فما رآه الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غيره…تسمر صاحبنا وهو يسمع ثمن أرخص الحقائب مائة وعشرون ألف أوقية….شر البلية ما يضحك…لا تعلم أنه لا يسخو بألفي أوقية لحقيبة…لا تهمه الحميريات من القرشيات من البريريات…يريد حقيبة يلف فيها “بيجاما كاز” ونعلا منحط المحتد للخادمة…انسحبا في غطاء من العطاس والسعال المفتعلين …والمسكينة تعوض الخسارة بغيبتهما وتقشيرهما عن العظم…أحد صخورها أنبأني أن القفص الصدري لزميلي يشبه شاحنة “صوبوما”..وآخر أنبأني أني أجعل الزر العلوي لقميصي في الفتحة الثانية…سارعنا الخطو مبتعدين عن حجارة امرأة تنفذ حد الرجم في المتلبسين بجريمة القبح و المتطاولين على بضاعة الجميلات…