لن أدعم برنامج الوزير الأول .. لكن لماذا؟!
لو لم أكن خارج الوطن وفي الحجز الطبي مع مريض منذ حوالي شهر ونصف، لما ترددت في معارضة برنامج الحكومة، وفي نقده في الدقائق القليلة جدا التي كانوا سيمنحونها لي ـ قياسا على السنة الماضية ـ ولحاولتُ أن أقدم أسباب ذلك ولو في كلمات موجزة مسرّعَة أسابق فيها الوقت. لكن نتيجة البعد والظروف القاهرة، سوف أكتب حول أسباب وقوفي ضد ما تفضل به معالي الوزير الأول، السيد إسماعيل ولد بده ولد الشيخ سيديا، أمس أمام البرلمانيين، إنارة للرأي العام، ولعل ذلك يجد صدى داخل الجمعية الوطنية:
ـ ما تفضل به الوزير الأول لم يكن برنامجا بالمرة، بل كان خطابا إنشائيا تقريبا، فخلا في أغلبه ـ أكثر من 90% من التزاماته ـ من أي سقف زمني أو أرقام أو معلومات يمكن أن يحاسب بها لاحقا هو وحكومته، فكانت المعلقة المشهورة "سـَ وسوفَ" مع جمل إنشائية يمكن أن يقرأها أي مسؤول في أي مكان وزمان دون أي يغير فيها الكثير، كما أن البرنامج تجاهل أو نسي الكثير من النقاط التي يعني المواطن اليوم وهو يجعل هذا البرنامج محل رفض وطعن، هذا مع "استفزازية" النمو المتسارع والرفاه المشترك!
ـ معالي الوزير الأول شخصيا معنيّ ببعض الالتزامات السابقة التي لم يتم إنجازها ولم يتم الاعتذار عنها ولا توضيح أسباب تأخرها عن الآجال المعلنة لبعضها، ومن المؤسف أن بعض هذه المشاريع تم استغلاله بفجاجة في حملات انتخابية، ومَنّ به نظام عزيز، ومعالي الوزير على السكان حتى قبل التنفيذ، ومن هذه الالتزامات عشرات المشاريع في وزارة الإسكان لما كان الرجل على رأسها، ومنها مشروع "مسجد انواكشوط الكبير" أيضا، وهذا مؤشر يدعو للقلق، خاصة مع تهرب الرجل في أغلبية خطابه أمس من أي أرقام أو تواريخ أو تمكن ملاحقته بها لاحقا.
• هنا أذكر جميع الالتزامات القليلة المحددة مما تفضل به معاليه، ليدرك القارئ ضآلة ذلك مقارنة مع الخطاب الإنشائي الطويل وكثرة الالتزامات المائعة والهلامية، ولإشهاد الرأي العام عليها لعل ذلك يخلق ضغطا لتنفيذها:
ـ "خلال السنوات الخمس المقبلة سيصل متوسط نمو الناتج الداخلي الخام إلى حدود 7% سنويا، ويتم احتواء نسبة التضخم في أقل من 4%".
ـ ستعكف الحكومة في الأسابيع المقبلة على وضع إطار مشجع للاستثمار الخاص، لاسيما في قطاعات الاقتصاد الواعدة كالزراعة والتنمية الحيوانية والصيد والمعادن والنفط والغاز.
فسجلوا أنّ أسابيع يجب أن لا تكون شهورا، ولكن المشكلة هو غياب معيار نحدد به "اعتكاف الحكومة"!
ـ "كما سيبنى ميناء الصيد والمجمع الصناعي في الكلم 28 قبل نهاية العهدة الرئاسية، على أن تستكمل الأشغال في ميناء انجاكو قبل نهاية 2020"
فهل منكم من يتذكر كلام القوم عن "مجمع صناعي عند الكلم 28 جنوب نواكشوط يصل تمويله إلى ملياري أوقية، ويوفر 2000 فرصة عمل، وذلك في فبراير 2011؟! ها هو يُبعثُ أيضا !!
ـ "وستعزز آليات توزيع الأسماك عبر تعميم مخازن التبريد على كافة مقاطعات البلاد" يؤسفني أنه لا سقف زمني لهذا الإنجاز العملاق، لكن السقف الجغرافي جعلني أذكره لتتابعوه لاحقا.
ـ " سيتم إطلاق برنامج كبير لاستغلال مصادر المياه المؤكدة لتزويد جميع المدن والبلدات بالماء الشروب في أفق 2025" يجب أن يعيش العطشى في الداخل على أمل سقفه بعد انتهاء مأمورية الرئيس غزواني بعام!
ـ "وستشهد الميزانية المخصصة للتعليم ارتفاعا تدريجيا يوصلها إلى نسبة 20 % من الميزانية العامة للدولة قبل 2024" ومع ذلك دون ذكر سلّم هذا التدريج، أي بكم ستزاد هذا العام مثلا؟
ـ "واعتماد زي موحد لكل التلاميذ، وتنفيذ برنامج للقضاء التدريجي على المدرسة الأساسية الخصوصية ابتداء من سنة 2020 – 2021". لعلها من الفقرات القليلة التي صيغت لأول مرة، لذلك تستوجب الانتظار.
سبعة التزامات فقط يمكنُ القول تساهلا أنها محددة المعالم ويمكن تتبعها!
• لنأخذ أمثلة أخرى من الالتزامات "الهامة" وكيف صيغت بطريقة ضبابية أو مائعة:
ـ في إطار التجارة "ستعرض الحكومة على جمعيتكم الموقرة مشروع قانون خاص بحماية المستهلك ومحاربة التفاهمات الخفية والشطط في استغلال موقع الهيمنة في السوق إلى غير ذلك من الممارسات التجارية غير المشروعة".
ـ وردت فقرة هلامية عن السياحة دون ذكر مشاكل عزلة للمدن التاريخية التي لا تصلها الطرق المعبدة، وتعاني من العطش، رغم مرور أنابيب المياه قرب بعضها (ولاتة مثلا).
ـ "الحكومة ماضية قدما في عملية إصلاح شركة صوملك التي تستهدف تحسين جودة الخدمة وخفض تكلفة الكهرباء" كيف؟ ومتى؟!
ـ "ومن الأمور المهمة التي ستنظر فيها الحكومة، مجانية العلاج في الحالات المستعجلة" فأيكم يستطيع أن يأخذ من هذا إلتزاما أو تعهدا بمجانية الحالات المستعجلة؟!
ـ "ستستحدث الحكومة وكالة مكلفة بوضع وتنفيذ برامج طموحة للرقي الاقتصادي والاجتماعي بالفئات التي تعاني من الغبن والتهميش. وستعتمد هذه الوكالة كأساس لتدخلها سجلا اجتماعيا يغطي كافة الأسر المعنية. وسيُخصص غلاف مالي قدره عشرون مليار أوقية جديدة (200 مليار أوقية قديمة) لهذه الوكالة". فهل هذه ميزانية سنوية أم طيلة المأمورية؟ ومن أين ستأتي؟
ـ ""كما سيوسع برنامج التحويلات النقدية "التكافل" ليشمل 100.000 أسرة، مع رفع الحوالة الفصلية لكل أسرة من 1.500 أوقية جديدة إلى 3.600 أوقية جديدة. وفي الوقت نفسه، سيتم العمل على الرفع من نجاعة برنامج "أمل" وفعاليته".
هل كان هذا البرنامج موجودا؟ ومن كانوا يستفيدون منه؟ وعلى أي أسس؟ ثم ماذا عن ظروف ومصير عمال برامج أمل الذي ذكر معاليه؟
ـ "برنامج يسمى "الشَّيْلة" مهمته التدخل في التجمعات المحلية الأكثر فقرا، لاسيما آدوابة، من خلال توفير خدمات مندمجة تشمل التعليم، والصحة، والسكن، والاستصلاح المائي والزراعي، والمَكْنَنَة الزراعية الجزئية، والطاقة، وتمويل المقاولات الصغيرة، والتكوين المهني. بينما سيستفيد سكان الأحياء الهشة في المدن الكبيرة من مساكن اقتصادية، وذلك في إطار برنامج جديد آخر يسمى "داري".
هذا الكلام مكرر ومتداخل مع الوكالة أعلاه، ومع الاعتراف بأهمية مضاعفة الجهود بخصوص تقليص الفجوة الاجتماعية، فإن كلا البرنامجين جاء بصيغة انشائية وملامح غير محددة يصعب تتبعه!
ـ "ستبذل الجهود للتمكن في السنوات المقبلة من تحقيق الاكتفاء الذاتي من مادة الأرز". لا أعرف إن كان معالي الوزير قصد فتح تحديد الرئيس لتاريخ الاكتفاء هذا عندما قال في برنامجه "في نهاية مأموريتي ستكون بلادنا مكتفية ذاتيا في مجال الأرز".
ـ "ستعمل على تعزيز وتكثيف برامج الكهْربة والنفاذ إلى الماء الشروب والصرف الصحي وتوسيع شبكاتها لتشمل كافة أرجاء البلد" جيد، حين نعجز عن صرف صحي في العاصمة، أن نتكلم عنه في كافة أرجاء البلد!!
• تقشف أم إفلاس؟!
حمل خطاب معالي الوزير الأول إشارات مهمة أو خطيرة على وجود مؤسسات أخرى في حالة حرجة عندما قال: "ستعمل الحكومة في القريب العاجل على تنفيذ الإصلاحات الضرورية التي يقتضيها تقويم وضعية المؤسسات العمومية التي تعاني من خسارة في الاستغلال ومن تراكم في الديون بشكل لا يخلو من مخاطر على مالية الدولة. وفي هذا الصدد، ستتم مراجعة مفصلة لوضعية المؤسسات المعنية من أجل تحديد الإجراءات الاستراتيجية الواجب اتخاذها". فهل هو تنبيه أننا بصدد إعلان إفلاس المزيد من المؤسسات، بعد سونمكس وأنير الخ؟
• جاليات الخارج
يؤسفني أن هذا الكم الكبير من المواطنين الناضجين المنتجين المهاجرين من أجل العيش بكرامة، خصصت لهم هذه الفقرة العائمة: "سنولي عناية خاصة لجالياتنا في الخارج تتناسب مع أهميتها ومع تطلعاتها، وسنعمل على إتاحة الفرصة لها للاضطلاع بكامل دورها في خدمة الوطن سواء في الخارج أو في الداخل من خلال المشاركة في جهود التنمية" حيث لا يوجد أي تعهد ملموس، لا بفتح سفارات في أماكن طالبت هذه الجاليات بذلك، وتستحقه (حالة الغابون مثلا)، ولا بفتح مكاتب إحصاء رغم المطالبات والتعهدات (حالة آنغولا وغيرها)، ولا بمشكل تعدد الجنسية، حالة أغلب الجاليات خاصة في الغرب، ولا بمسألة التصويت في الانتخابات، حيث ما زالت أغلبية الجاليات محرومة منه.
• مواضيع معلَقة
ـ أين زيادة الرواتب في برنامج الحكومة؟ هل من المتوقع أن تتحقق أي نهضة أو تغيير ورواتب المعلمين والأساتذة والممرضين وعناصر الدرك والحرس والشرطة وغيرها في واقها الحالي؟ أين أمن انواكشوط في هذا البرنامج، فقضايا السطو والسرقة والقتل تزداد؟ وأين مشكل المخدرات سواء العبور والتهريب أم التعاطي وتفكيك المجتمع؟ أين مشاكل العقدويين، واكتتاب الممرضين والقابلات الذي درسهم ذووهم من الأسر الفقيرة على حسابهم؟ أين مشاكل الحمالة فآلاف "دوكيرات" ينتظرون من يهتم بهم؟ أين ملف مئات الطلاب المحرومين من التسجيل في الجامعة بسبب عتبة العمر التي اختلقها عزيز والوزير الحالي ـ السابق؟ أين إلتزامات جدية وواضحة بخصوص مشاكل الطرق والحوادث والتأمين؟ أين مشاكل المسابقات والاكتتابات؟ أين مشاكل العمال المسرحين من شركات أفلست أو أدمجت، أو قلصت عمالها وذلك مثل سونمكس، سوماغاز، أنير، سوملك، النفاذ الشامل، اسنيم، شركة النقل العمومي الخ ؟ أين ملف اكتتاب المهندسين والأطباء الخ؟ أين مشاكل البئة خاصة مخلفات شركات التنقيب؟ وأين مشاكل الصيد البحري وخاصة التقليدي منه في أزمته الحالية؟ أين مشكل ارتفاع الأسعار مع ضعف الدخل، وما هي الحلول؟
مجرد أمثلة على الكثير من القضايا الشائكة التي لم تنل حظها في معلقة معالي الوزير الأول!
فلا مجال لدعم هذا النوع من "البرامج"، فالمواطن ينتظر غير هذا!
ملاحظة: أرفقت فيديو مداخلتي العام الماضي بعد عرض الوزير الأول السابق في حكومة الرئيس السابق، نتيجة تداخل الملفات وتجدد المعاناة بالنسبة للكثيرين وخاصة العمال وصغار الموظفين، والطبقات الهشة عموما
النائب محمد الأمين ولد سيدي مولود