عن النشيد الوطني.... والطبقات والشرائح
____________________________________
النشيد الوطني
مضت،الآن تسع سنوات على مقال كتبته حول النشيد الوطني و ضرورة مراجعته بما لا يضر إيقاعه، على مافيه من رداءة،لأن الناس قد تعودت موسيقاه ، ذكرتُ فيه أن الرئيس السابق معاوية بن الطائع كان قد طرح الموضوع وكلف ــ على حد علمي ــ شعراء بتقديم ماتجود به قرائحهم وتصوراتهم للبحث فيها عن بديل للكلمات الحالية، وأستطيع أن أقول إنني كنتُ احدهم، وأن شيخنا العلامة قدم قطعة منظومة لذلك الغرض،وهو من أخبرني،وكان يعلم أنني قدمتُ نموذجاً آخر، وبطبيعة ذ لك الحكم ،يبدو أنه كان مطلوبا من كل منا أن لا يبلغ الآخر: أعني جميع المعنيين وأخمن أنهم كانوا أربعة، منهم من ذكرتُ، كان ذلك منتصف سنة 1990، وسبق أن طلب مني بواسطة أحد وزرائه ، سنة 1986نصا لذات الغرض سلمته للوزير المعني ، الذي عاد بعد أسبوع ، ليطلب مني حذف مقطع يحمل اسم أحد رموز تاريخنا الوسيط ، مما يدل على الاهتمام والمتابعة وفي غضون تلك المرحلة عزل الوسيط من منصبه و توقف الأمر، إلى أن كلمني الرئيس الأسبق مباشرة و تبادل معي الحديث حول النص الأول الذي أعدتُ اقتراحه عليه مع تغيير بسيط،، ومن الطريف أنه كان يظن الكلمات من شعر الوزير/ الوسيط... فهل كانت ادعاء من صاحب المعالي أم ظنا من صاحب الفخامة؟؟ ! وتلاحقت أحداث أخرى و تبدلت مواقع و مواقف..وضاع الخيط .. واحتفظتُ إلي الآن بالنـــــــــــــصين.
إعادة التأسيس
لأنني أعتبرالتلازم بين روافد التجديد،أمرا مُلحا وأن المطلوب في حالتنا هو ما سميته ولا أزال أسميه(إعادة التأسيس)،لأن الدولة التي هي ــ من حيث التعريف ــ "مشروع تعاقدي بين جماعات وأفراد يقررون بموجبه التنازل لها عن جملة من حقوقهم مقابل أداء جملة من الخدمات"،وأننا في حالتنا ــ نحن الموريتانيين ــ لم نتواضع علي شيء من هذا القبيل ، بل جاءتنا الدولة مفروضة ، قسراً، على مجموعة من الكيانات القبلية والإماراتية، بقرار من نخبة متحكمة تساندها قوة استعمارية غاشمة، فتحولنا إلى دولة جنينية تكونت خارج رحم مجتمعها...فإنني أرى أن هذا الكيان ـ بعلمه ونشيده الوطني و مظاهر سيادته ـ أصبح أمرا واقعا تعودناه،على عجره و بجره،بالمعايشة والترابط، قد تولدت عنه ومنه حقائق جميلة أصبح الحفاظ عليها أولى ـ في غياب واستحالة خلق البدائل ـ و عليه و به فإن الأولوية ،الآن ،هي قبل كل أولوية الحفاظ عليه كما هو، حتى نتفق على مانريد له أن يكونه،بالأساليب الحضارية والقانونية حصرياًّ.
ولكن المؤسف أن الدعوة إلى نقاش وطني يتناول المصير و المقدرات لم تعد تجد أذنا صاغية لأن ثمة مجموعة من العربات تبدو جاهزة لتوضع أمام ثور واحدٍ، علمًا بن جر الثور بعربة واحدة أمرٌ فيه نظر، أحرى بعربات عديدة.فهل ستكون العبر الكبرى المستخلصة من انتخابات2019 دافعا،وكفى بها دافعا للعود على بدءٍ في جمع فكري سياسي اجتماعي لمطارحة ما بسطنا بعضه في هذا الحديث منذ عقد من الزمن ؟
لكن ...من نحــن ؟
إن أهم مسألة(والمسألة أكبر من المشكلة) مطروحة علينا حالا هي تحديد معالم مجتمعنا وفقا للمقاييس المتعارف عليها: فمن نحنُ؟ لأن الهوية هي المحدد الأول الذي يجب ان لا يكون موضوع ولا موضع مناكفة..ومن هنا نبدأ..
فالناطقون باللهجة العربية الحسانية كيفما كانت الأصول العرقية التي جاءوا منها (نانمه، أفارقة زنوج،بربر، عرب، بافور، موريسكيين، بقايا علوج بحر،هنود حمر، بقايا طوف بواخر الملاحين الفينيقيين إلخ)هم مجموعة منسجمة تنتمي حضاريا إلي لغة واحدة تطرب لفن واحد و تخضع لمنظومة قيم واحدة بنفس المعايير.
و من نافلة القول إنه لا عبرة بلون البشرة في الانتماء إليها،كما هو الحال كونيا، فلم يكن اللون ،يوما واحدا ، أداة توحيد أمة ولا عرق و لاشريحة؛ ففي بلادنا بشرة السوننكي و التكروري و الولفي والكثير من الشرفاء و العرب و الحراطين واحدة، فهل هذا يخلق انسجاما، وهل جعلت البشرة الصفراء الصيني و الفيتنامي و الخميري و الكوري والماليزي شعبا واحدا؟ و أوربة البيضاء التي تحاربت ، فيما بينها،مئات السنين ، بل طيلة الألف سنة الماضية ،ولم تتسالم إلا منذ أقل من سبعين سنة ، وحَّدَها اللون؟وهل تقبَّل الباسكي أن يكون فرنسيا إلا بالجنسية، قسراً، وهل"تأسبن" إلا بالقهر؟..
تلك حقائق و مسلمات أوضح وأقرب من أن يضرب لها أو بها مثال..
العبودية:إن الإحساس بالظلم والغبن التاريخيين شرعي و وارد بل واجب، وهو وقود كل ثورات الدنيا من نشأتها إلي اليوم.. والفظائع التي ارتكبتها أجيالنا السابقة و دأبت عليها ،بعض اللاحقة، جرائم يندى لها الجبين وتنهد لها الجبال هدًّا، و واجب المجتمع قبل الدولة ومعها، أن يكفر عنها دينا ودنيا بالتعويض المعنوي بكل ما يصل إليه خيال المنصف الملتاع المرتاع،و بالتمييز الإيجابي في كل مناحي الحياة لطَمِّ الفجوة و ضم الجفوة في مصالحة تسبقها مصارحة مع الذات،تتوج بنقد واع للتاريخ، شريطة عدم إسقاطه على الحاضر،إذْ أن العبودية والطبقية حالة و مرحلة بشعة حيوانية مرت بها جميع الأمم و الشعوب، ولم تتخلص منها اوربة إلا قبل قرن ، استمرت بعدها في أمريكا ناهيك عن ماكان يمارس بالأمس القريب في إفريقيا الفصل العنصري..
المعلمين
يبقى الظلم المعنوي ،أساسًا، والماديُّ بدرجة أقل، الناجم عن السيبة المبنية علي الهمجية وغلبة الأقوى لحظتَه،التي يمارسها بحقارة و بشاعة منقطعتيْ النظير علي المغلوب حتى و لوكان أخاه...والأمثلة أكثر من أن تُحصى، وآلمُ نتائجِها "تشريحُ المجموعات" ، بالمعنى الجراحي الذي يقطع الجسم الواحد حسب حاجة(الأقوي) إلي من يخدمه.
و النموذج الوحشي الرهيب يتمثل في حالة "المعلمين"، و "إيكاون" ،و" اللحمة"و ما أدريك ما حالة اللحمة، وحالات تخص البحر والمدن القديمة:عمال التطهير و التأبير"الحمريين"و"المرابطيين"، و"الطليبة: فكل شريحة من هذه الشرائح تلصق بها جملة من المهازل تَـنَدُّرًا وطيرة وتبخيساً، وهي مسلكيات و(ممنوعات) يجب أن تُناقش جهارا نهارا و تتخذ الأمة خارطة طريق للقضاء عليها لأنها داء ينخر جسم المجتمع و يخلق فيه مسالك للوَهَن يسلكها الصادقُ المظلومُ ويستغلها المتآمر النموم، وتَجُرُّ إلي خراب المجتمعات و ذوبان الهويات في أتون الفتن ماظهر منها وما بطن.
خاتمة:
جَـنبنا الله المعاطب بتكاتف جهود المثقفين والكتاب وأرباب التنوير والنخبة الفاعلة الوطنية المستنيرة الحريصة علي البلاد والعباد من أجل قيام دولة المواطنة القائمة علي العدل والأخوة والمساواة!!
لي كامل الأمل في أن الرجل الذي انتخب قاضيا أول مفوضا الحفاظ على الوثيقة الأولى ،وأمينا ،وفق مقتضياتها،على البلاد والعباد ،لن يألوّ جهدا في تاكيد موعده مع التاريخ.