نزار قباني عَرْف دمشقي أصيل ، وشاعر استثنائي ، وماركة إبداعية مسجلة ، ودبلوماسي من طينة الشعراء ، طلع بدره عام 1923 م في بيت كثير الماء والزهر ، لأب محب للشعر وعاشق للجمال ، حصل على الباكلوريا من مدرسة الكلية العلمية الوطنية بدمشق ، ثم التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية وتخرّج منها عام 1945 .
...............................................................................................
لم يولد في مدرسة المتنبي، ولم يكن يعنى بشيء من الحكمة والرثاء والمديح، ولم يهتم بالبيت الواحد من القصيدة يضرب مثلا، ولا بالأساليب التي ألِفها شعراؤنا وأدباؤنا وإنما هو شيء جديد في عالمنا ومخلوق ٌغريب شقّ طريقه بخطى واعية وثابتة ، فلم يكن ظاهرةً تمثل مرحلة وإنما شق لنفسه طريقا مختلفا عن غيره من الشعراء ، حمل في شوارع هذا الطريق لواء الاشتراكية الشعرية ، داعيا إلى أن يكون الفن ملكا لكل الناس كالهواء .. وكالماء .. وكغناء العصافير...
.........................................................................................................................
حارب وثنية الشعر والوثنيّة القدسيةّ للمرأة ، فلم تعد المرأة في عهده وثنا يشبه غيره من الأوثان، بل دخل إلى جوانحها وعالمها ، واصطاد دقائقها، ودخل مخدعَها وحادَثَها، ووصف مفاتنها وأنوثتها وحاجاتها الصغيرة بلغة مثيرة انفعالية وتفاعلية، أثارت عَبَدةَ الأوثان خاصة، عندما دخلتْ مخدعَهم وعرَّتْهم على حقيقتهم ، وكان هذا النجاح في عناق المرأة سببا في تسميته بشاعر الحب والمرأة ، ودعوة كثيرين إلى منع النساء من قراءة شعره حفاظا على عقولهن "الصغيرة " .
شغل شعره وعلى مدى عقود قلوب المتيمين بالحب والعذارى ، وتمرد على الطغيان والاحتلال ، وانحاز في كل جوانبه إلى الإنسان ، فكان ينضح بالإنسانية المفعمة بالعشق الذي لا ينضب .
........................... ....................... ............................
لم يتعرّض شاعر للنقد في العصر الحديث كما تعرض ” نزار قباني “ ، لم يتوقف النقد مدة مسيرته الشعرية ، بعد كل قصيدة نقد وهجوم وعنف ، وبعد إصدار كل ديوان، حملاتٌ شعواء، وأقلام مرفوعة، وأصوات عالية والرحلة مستمرة .
أهدر دمه من قبل العلماء والأمراء ، وتطاول عليه الشعراء ، واتَّهمهُ النُقاد بالإباحية والسطحية ، وسرقة أفكارٍ غربية ولصقها بالقصيدة العربية ... قيل عنه إنه تعرضَ للمُحرمات في قصائده وعرى المرأة كما يحلو لهُ بطريقةٍ سافرة مستغلا بذلك عقدة النقص الجنسي في الشرق ومستفزا الغرائز المكنونة وكاسرا الحاجز الذي لطالما كانَ غامِضاً ومُحرماً .
رغم كل ذلك أثبتَ نزار قباني أن الجرأة هيَ قوة القصيدة وجبروت الشاعر الثائر ، أكانَ في القصيدة السياسية أو في القصيدة الغزلية ، فكانَ مِثالاً للمُحارب الجريء الذي يحاربُ الأعراف والتقاليد البالية والقمع والاستبداد ، فمثل بذلك ظاهرة لن تتكرر في كسر الحواجز والطُقوس البدائية ، وكان الشاعر الاستثنائي الذي أحدثَ الانقلاب على الفكر المُتخلف والعقلية المُتحجرة .
................................ .................... .................
على الصعيد الشخصي، عرف قبّاني مآسي عديدة في حياته، منها انتحار شقيقته لما كان طفلاً ، ومقتل زوجته بلقيس خلال تفجير انتحاري في بيروت، وصولاً إلى وفاة ابنه توفيق الذي رثاه في قصيدته "الأمير الخرافي توفيق قباني "، وقد ترك رحيل الثلاثة أثراً كبيرا في نفسه ، وكان لكل منهم صدمة ومرثية ، وتحول الشاعر بعدهم "من شاعر يكتب الحب والحنين لشاعر يكتب بالسكين "
بعد مقتل بلقيس ترك نزار بيروت وتنقل بين باريس وجنيف واستقر به المقام في لندن التي قضى بها الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته ، ومنها قاد معاركه السياسية بسلاح الشعر ، وقاوم مشروعات السلام والتطبيع مع إسرائيل وعبر عن ذلك في قصائدة الشهيرة : المهرولون ، المتنبي ، ومتى يعلنون وفاة العرب ...
بينه وبين مدينته دمشق حب خيالي , وأسطورة لها بدايتها وليس لها نهاية ، بين نزار ودمشق سر وأسرار ، بينهما علاقة الابن البار مع الأم التقية النقية, بينهما لغة الياسمين ، بينهما لغة الضاد .. كان حبها يقبع في قلبه ، ولم يستطع برغم البعد والفراق والأسى أن ينسى عطف وحنان أمه دمشق .
التصق نزار بقلب دمشق ، وكان سرا من أسرارها , وظلت دمشق مرسومة في خياله ووجدانه , أولياؤها مدفونون في داخله ، حاراتها تتقاطع فوق جسده ، قططها تعشق .. وتتزوج .. وتترك أطفالها عنده ..دمشق بالنسبة له ليست صورة منقولة عن الجنة إنها الجنة ، وليست نسخة ثانية للقصيدة .. إنها القصيدة ، وليست سيفاً أموياً على جدار العروبة .. إنها العروبة...
.......................... ............................ .........................
حين بدأ الموت يتسلل لجسد الشاعر كانت كل العواصم العربية تتضرع لله أن يعافي قلب الشاعر , وكانت دمشق الأم تدري أن القدر شاء وأن الشاعر مودعنا إلى أعالي السماء ، فشرفته بوضع اسمه على أكثر شوارعها جمالا ونضارة وخضرة ، وقبل نزار الهدية واعتبرها أجمل بيت امتلكه على تراب الجنة .
توفي نزار قباني عن خمسة وسبعين عاما في لندن يوم 30/4/1998 وأعيد إلى وطنه سوريا مسجى بعلمه ، وتحولت جنازته إلى مظاهرة للشعر شارك فيها آلاف الرجال والنساء ، رحل في هذا التاريخ لكن قصائده المضمَخة بالحب والنضال ، بقيت صامدة تتحدى الزمان فكتبت له الخلود في الوجدان العربي ..
برحيله خيم الحزن ليس على المشهد الشعري والساحة الثقافية العربية فحسب ، وإنما اجتاحت الشارع العربي برمته موجة حزن فريدة من نوعها ، ولعل أجيال العشاق التي تعاقبت على قراءة شعر نزار والهيام في عذوبة جمله كانوا أكثر حزناً من الاوساط الثقافية التي ودعته إلى مثواه الأخير.
مثل نزار بماركته الشعرية المسجلة حالة فريدة وعلامة فارقة في تاريخ الشعرية العربية ، وستظل كلماته الأكثر تردداً على شفاه المحبين والهائمين بجمرة الحب التي لا تتوقف أبداً ، إنه عراب الحب الخالد الذي لن يتكرر في الاحساس بالمرأة والحب والحياة في قلمه وفكره في جرأته وتعدد خيالاته وعلاقاته ، في كل ما هو محبوب لدى المرأة ومكروه في نفس الوقت .. إنه زهرة نيسان التي رحلت دون وداع ..وشاعر الحب والثورة والسياسة ..ولد في الربيع ..وعاش له ..وفيه رحل ...وسيبعث على ما مات عليه...
بقلم : عبد المجيد ولد ابراهيم